بعض صور من الشركات الجائزة

وقد أقر النبي، صلى الله عليه وسلم، المضاربة على ما كانت عليه قبل الاسلام، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الامة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا كانه رأي عين، ثم لم ينسخه ولا ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم، يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع، إلا فيما منع منه النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك، فإذا بلي الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا، ولا يدله من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الامة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الامة.
بعض صور من الشركات الجائزة:
أورد ابن قدامة بعض صور من الشركات الجائزة، فقال في المغني:

" فإن كان لقصار أداة ولاخر بيت، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما، جاز، والاجرة على ما شرطاه، لان الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة، والالة والبيت لا يستحق بهما شئ لانهما يستعملان في العمل المشترك، فصارا كالدابتين اللتين أجراهما لحمل الشئ الذي تقبلا حملا.
وإن فسدت الشركة قسم ما حصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والالة، وإن كانت لاحدهما آلة وليس للاخر شئ، أو لاحدهما بيت وليس للاخر شئ، فاتفقا على أن يعملا بالالة أو في البيت والاجرة بينهما، جاز لما ذكرناه.
قال: وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا، صح، نص عليه في رواية الاثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد، ونقل عن الاوزاعي ما يدل على هذا.
وكره ذلك الحسن والنخعي.
وقال الشافعي وأبو ثور
وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب الدابة لان الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله، لان هذا ليس من أقسام الشركة، إلا أن تكون

المضاربة، ولا تصح المضاربة بالعروض، ولان المضاربة تكون بالتجارة في الاعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها.
وقال القاضي: يتخرج أن لا يصح، بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح، فعلى هذا: إن كان أجر الدابة بعينها فالاجر لمالكها، وإن تقبل حمل شئ فحمله عليها أو حمل عليها شيئا مباحا فباعه، فالاجرة والثمن له، وعليه أجرة مثلها لمالكها.
ولنا انها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة والارض في المزارعة.
وقولهم إنه ليس من أقسام الشركة ولا هو مضاربة، قلنا: نعم، لكنه يشبه المساقاة والمزارعة، فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها.
وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعرض فاسد، فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال، وهذا بخلافه.
قال: ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو ألا يكون به بأس.
قال إسحاق ابن إبراهيم قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع
فهو جائز، وبه قال الاوزاعي.

قال: وقالوا (1) لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها.
وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على ما شرطا، لانها عين تنمى بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالارض " (انتهى) .

(1) أي بعض أئمة الفقه.