الجهاد لاعلاء كلمة الله

أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا، فيغسلون، ويصلى عليهم.
" وبيان هذا، أن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل من الغنيمة (1) أو قتل مدبرا ".
وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب، إلا الدين ".
ويلحق بالدين مظالم العباد، مثل: القتل، وأكل أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك.
الجهاد لاعلاء كلمة الله:
إن الجهاد لا يسمى جهادا حقيقيا إلا أذا قصد به وجه الله، وأريد به إعلاء كلمته، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله، فإذا أريد به شئ دون ذلك من حظوظ الدنيا، فإنه لا يسمى جهادا على الحقيقة.
فمن قاتل ليحظى بمنصب، أو يظفر بمغنم، أو يظهر شجاعة، أو ينال شهرة، فإنه لانصيب له في الاجر، ولاحظ له في الثواب.
فعن أبي موسى، قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم (2)
والرجل يقاتل للذكر (3) ، والرجل يقاتل ليرى مكانه (4) ، فمن في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله ".

(1) راجع الجزء الرابع (المجلد الاول) من .
(2) أي لاجل الغنيمة.
(3) ليذكر بين الناس.
(4) يرى مكانه: يشتهر بالشجاعة.

وروى أبو داود، والنسائي: أن رجلا قال: يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الاجر والذكر، ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لاشئ له ".
فأعادها عليه ثلاث مرات: فقال: " لاشئ له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه ".
إن النية: هي روح العمل، فإذا تجرد العمل منها، كان عملا ميتا، لاوزن له عند الله.
روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
وإن الاخلاص هو الذي يعطي الاعمال قيمتها الحقيقية، ومن ثم فإن المرء قد يبلغ بالاخلاص درجة الشهداء، ولو لم يستشهد.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
" من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداءوإن مات على فراشه ".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ".
وإذا لم يكن الاخلاص هو الباعث على الجهاد، بل كان الباعث شيئا آخر من أشياء الدنيا وأعراضها لم يحرم المجاهد الثواب والاجر فقط، بل إنه بذلك يعرض نفسه للعذاب يوم القيامة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد. فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت

لان يقال: جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها.
قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن.
قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم.
وقرأت القرآن ليقال هو قارئ.
فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال.
فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها.
قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيهالك.
قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار ".
رواه مسلم أجر الاجير ومهما كان المجاهد مخلصا، وأخذ من الغنيمة، فإن ذلك ينقص من أجره.
فعن عبد الله بن عمرو.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من غازية، أو سرية تغزو، فتغنم، وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ".
" وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب، إلا تم أجورهم ".
رواه مسلم.
قال النووي: " وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره.
أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم.
وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم، فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الاجر.
وهذا موافق للاحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: " منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا.
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها: أي يجتنيها ".
فهذا الذي ذكرنا هو الصواب.
وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث

صريح صحيح يخالف هذا.
فتعين حمله على ذكرنا.
وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه ".
وروى أبو داود عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ستفتح عليكم الامصار، وستكونون جنودا مجندة، يقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل منكم البعث فيها، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، يقول: من أكفه بعث كذا، وذلك الاجير، إلى آخر قطرة من دمه ".
فضل الرباط في سبيل الله توجد ثغور يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الاسلام ومن الواجب أن تحصن هذه الثغور تحصينا منيعا، كي لا تكون جانب ضعف يستغله العدو ويجعله منطلقا له.
وقد رغب الاسلام في حماية هذه الثغور، بإعداد الجنود ليكونوا قوة للمسلمين.
وأطلق على لزوم هذه الثغور، لاجل الجهاد في سبيل الله لفظ الرباط (1) ، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يوما، وأفضله ما كان بأشد الثغور خوفا.
وقد اتفق العلماء على أنه أفضل من المقام بمكة.
وقد جاء في فضله من الاحاديث ما يلي: روى مسلم عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله (2) الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه (3) ، وأمن الفتان ".
قال: " كان ميت يختم (4) على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله،

(1) الرباط: معناه الاقامة في الثغر بإزاء العدو.
(2) هذه فضيلة خاصة بالمرابطة.
(3) هذا كقوله تعالى: " أحياء عند ربهم يرزقون ".
(4) يختم على عمله: ينقطع عمله عنه ولا يصل ثوابه إليه.