التبرع بكل المال، الثواب على الهدية

التبرع بكل المال:
مذهب الجمهور من العلماء أن للانسان أن يهب جميع ما يملكه لغيره.
وقال محمد بن الحسن وبعض محققي المذهب الحنفي: لا يصح التبرع بكل المال ولو في وجوه الخير، وعدوا من يفعل ذلك سفيها يجب الحجر عليه.
وحقق هذه القضية صاحب الروضة الندية فقال: " من كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره.
وهذا هو وجه الجمع بين الاحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة وبين الادلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث " ا. هـ
الثواب على الهدية:
ويستحب المكافأة على الهدية وإن كانت من أعلى لادنى.
لما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل

الهدية ويثيب عليها " (1) .
ولفظ ابن أبي شيبة: " ويثيب ما هو خير منها ".
وانما كان يفعل ذلك ليقابل الجميل بمثله وحتى لا يكون لاحدعليه منة.
قال الخطابي: " من العلماء من جعل أمر الناس في الهادية على ثلاث طبقات:
1 - هبة الرجل من دونه كالخادم ونحوه اكرام له وإلطاف. وذلك غير مقتض ثوابا.
2 - هبة الصغير للكبير: طلب رفد ومنفعة. والثواب فيها واجب.
3 - هبة النظير لنظيره: الغالب فيها معنى التودد والتقرب. وقد قيل إن فيها ثوابا.
فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم " ا. هـ

(1) أي يعطي المهدي. بدلها وأقله ما يساوي قيمة الهدية.

حرمة تفضيل بعض الابناء في العطاء والبر: لا يحل لاي شخص أن يفضل بعض أبنائه على بعض في العطاء لما في ذلك من زرع العداوة وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل.
وقد ذهب إلى هذا الامام أحمد (1) واسحاق والثوري وطاوس وبعض المالكية وقالوا: " إن التفضيل بين الاولاد باطل وجور ويجب على فاعله إبطاله، وقد صرح البخاري بهذا، واستدلوا على هذا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سووا بين أولادكم في العطية. ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء " (2) .
عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: أنحلني

(1) مذهب الامام أحمد حرمة التفضيل بين الاولاد ما لم يكن هناك داع، فإذا كان هناك داع أو مقتض للتفضيل فإنه لا مانع منه. قال في المغني: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه على سبيل الاثرة والعطية في معناه " ا. هـ
(2) أخرجه الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور وقد حسن الحافظ بن حجر اسناده في الفتح.

أبي نحلا (1) - قال اسماعيل بن سالم من بين القوم: نحله غلاما له.
قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة - إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له.
فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك.
قال: فقال: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا.
قال: فقال بعض هؤلاء المحدثين: هذا جور وقال بعضهم: هذا تلجئة. فأشهد على هذا غيري.
قال مغيرة في حديثه: أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم.
قال: فأشهد على هذا غيري - وذكر مجاهد في حديثه: إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم. كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك ".
قال ابن القيم: هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله

(1) النحل: بضم النون وسكون الحاء المهملة. مصدر نحلته، من العطية، أنحله بضم الحاء واللام. نحلا. والنحلى: العطية. على فعلى. قاله الجوهري. وقال غيره: النحل والنحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق.

به في كتابه وقامت به السموات والارض وأثبتت عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الارض، وهو محكم الدلالة غاية الاحكام، فرد بالمتشابه من قوله: " كل أحد أحق بماله من ولده والناس أجمعين ".
فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء ويقاس متشابهه على إعطاء الاجانب. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا الحكم المبين غاية البيان " ا. هـ
وذهب الاحناف والشافعي ومالك والجمهور من العلماء إلى أن التسوية بين الابناء مستحبة والتفضيل مكروه وان فعل ذلك نفذ.
وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة، كما ذكر الحافظ في الفتح، كلها مردودة، وقد أوردها الشوكاني في نيل الاوطار، نوردها مختصرة مع زيادات مفيدة قال:
أحدها: أن الموهوب النعمان كان جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأن كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث الباب ان الموهوب

كان غلاما وكما في لفظ مسلم المذكور قال: " تصدق علي أبي ببعض ماله ".
الجواب الثاني: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فأشار عليه بأن لا يفعل فترك. حكاه الطبري. ويجاب عنه بأن أمره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز.
وكذلك قول عمرة " لا أرضى حتى تشهد ... الخ ".
الجواب الثالث: أن النعمان كان كبيراولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع.
ذكره الطحاوي قال الحافظ: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله " أرجعه " فإنه يدل على تقدم وقوع القبض.
والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره.
فأمره برد العطية المذكورة بعدما كانت في حك المقبوض.
الجواب الرابع: إن قوله " أرجعه " دليل الصحة، ولو لم تصح

الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لان للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وإن كان الافضل خلاف ذلك.
لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به.
قال في الفتح: وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله: " أرجعه " أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة.
الجواب الخامس: إن قوله " أشهد على هذا غيري " إذن بالاشهاد على ذلك، وانما امتنع من ذلك لكونه الامام وكأنه
قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد. وإنما من شأنه أن يحكم. حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار.
وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولامن أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث.
قال الحافظ: وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع.
وقال ابن حبان: قوله " أشهد " صيغة أمر والمراد به نفي الجواز، وهي كقوله لعائشة " اشترطي لهم الولاء " ا. هـ

ويؤيد هذا تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا، كما في الرواية المذكورة في الباب.
الجواب السادس: التمسك بقوله " ألا سويت بينهم؟ على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهي التنزيه.
قال الحافظ: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة. ولاسيما رواية " سو بينهم ".
الجواب السابع: قالوا: المحفوظ في حديث النعمان " قاربوا بين أولادكم " لاسووا، وتعقب بأنكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية.
الجواب الثامن: في التشبيه الواقع بينهم في التسوية بينهم بالتسوية منهم في البر قرينة تدل على أن الامر للندب.
ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهي عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفها. وان صلحت لصرف الامر.
الجواب التاسع: ما تقدم عن أبي بكر من نحلته لعائشة وقوله لها

" فلو كنت احترثته " وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه تحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين.
قال في الفتح ": وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين.
ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم " ا. هـ على أنه لاحجة في فعلهما لاسيما إذا عارض المرفوع.
الجواب العاشر: إن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده.
فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده بالتمليك لبعضهم.
ذكره ابن عبد البر.
قال الحافظ: ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص. ا. هـ
فالحق أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم. واختلف الموجبون في كيفية التسوية.
فقال محمد ابن الحسن واحمد واسحاق وبعض الشافعية والمالكية: العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث.
واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو مات عند الواهب