البالنبوري فقيد التراث والثقافة

جريدة الرياض
29-05-2020

فجع العالم الإسلامي بوفاة أحد أبرز رجال الدين وأعلام الفكر في الهند، وذلك عقب ما استأثرت رحمة الله بالمحدث سعيد أحمد البالنبوري في 19 من مايو في مستشفى ممبي. وقد عانى الراحل من إصابة رئوية منذ فترة. فما إن تداول نعيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتلقاه أقرباؤه وأعزاؤه وتلاميذه في داخل الهند وخارجها حتى أصيبوا بالهم والحزن والكآبة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

كان الراحل من مواليد العام 1940م في مدينة بالنبور بمحافظة كجرات غرب الهند، وله اشتغال كثيف بتدريس العلوم الإسلامية لا سيما بمادة الحديث النبوي وأصوله وفنونه منذ عنفوان شبابه حتى أتاه اليقين لمدة طويلة تتراوح نصف قرن. ولم تقتصر نشاطاته العلمية وفعالياته الأكاديمية على ممارسة التدريس والتربية بل تعدت إلى القيام بجولات دعوية في نهاية المطاف السنوي في أوروبا وشمال أميركا، وإلى الحضور في ندوات علمية حول قضايا معاصرة يعقدها مجمع الفقه الإسلامي بالهند، وإلى الاعتناء بالتراث الإسلامي القيم ونقله إلى اللغة الأردية مثل صحيح البخاري وسنن الترمذي وحجة الله البالغة للدهلوي. وكذلك له إسهام كبير في غرس بذور الأفكار الإسلامية والقيم الإنسانية وتعزيز جذورها ونشر فروعها في الهند طولاً وعرضاً.

من سعادة حظي أنني كنت باشرت الاستفادة منه دراسة صحيح البخاري إبان العام الدراسي 11-2010 في رحاب جامعة ديوبند. فقد لاحظت محاسن ومزايا لشخصيته المميزة التي تتفوق بها على أقرانها وأترابها، منها اهتمامه البالغ بالحضور على المواعيد، فلم تكن تفوت لحظة في أغلب الأحيان إلا يحضر في الموعد الذي يحدده، ومنها التعبير عن موقفه الصارم بلا خوف وتردد حول قضايا معاصرة حتى كان يتفرد أحياناً برأيه، ومنها التمتع بالشعبية ما لم يحظ بها آخرون من معاصريه، ومنها تحاشد الطلاب وتسابقهم للحضور في محاضرته لاتصافها بسعة الفكر ودقة الملاحظة وتنوع الثقافة وارتجال الدعابة وموسوعي المعرفة ووسطي الاتجاه ونبوع الإبداع وموهبة الإقناع وغاية التحقيق وفصاحة التعبير وروعة الأداء وبلاغة اللسان وبراعة البيان ورشاقة الأسلوب وسلامة الذوق على مدار السنة، ومنها علاقته الوطيدة بأفكار ومآثر الإمام ولي الله الدهلوي والإمام محمد قاسم النانوتوي، ومنها ملكته الراسخة والمبهرة على بيان أهداف تراجم الأبواب لصحيح البخاري وإقامة الربط والصلة بينها خلال إلقاء محاضرته، ومنها تحفيز الطلاب على حفظ متون الأحاديث مثل حفظ آيات القرآن.

فقد أورثت رحلته فراغاً كبيراً في الأوساط العلمية تصعب تعبئته في الآونة الأخيرة. ولقد كان كثير من رجال العلم والدين يعتبرونه مرجعاً علمياً لأنفسهم، كما يهرعون إليه لمعالجة ما يواجهون من معضلة علمية. ويتقدم كاتب هذه السطور ووالده بخالص التعازي وصادق المواساة إلى أبنائه وأحفاده وذويه الآخرين، سائلين المولى عز وجل أن يغفر له ويرحمه، ويلهم ذويه الصبر والسلوان، آمين.