ثلاثة أيام غيّرت العالم

جريدة الرياض
02-04-2020

أتى السيد (كوفيد 19) ليضع المرآة المحدبة؛ لنقترب أكثر فنراه على صورته الحقيقية المكبرة ألف مرة مما كنا نراه! لنصحو على عالم حقيقي غير الذي كنا نتخيله، فكشف لنا هزال العالم وزيفه، واتضح لنا أننا نحن الأكثر تحضراً وقوة وعقيدة وإنسانية..

لقد كان العالم يمضي مئات السنين على وتيرة واحدة ويحتفظ بتوازن ملحوظ يعمل على استقرار بوصلته التي هي بدورها ميزان عالمي لا ترجح إحدى كفتيه. حتى جاء اليوم الأول:

انهيار سور برلين العام 1989 م بسبب عدة عوامل منها:

أ- القوى المحافظة المناهضة لغورباتشوف: حيث أكد غورباتشوف على أن توقف عملية الإصلاح سيؤدي إلى كارثة محققة، وأن الإصلاحات ستجعل من الاتحاد السوفيتي أكثر دول العالم ديموقراطية.

ب- مشكلات القوميات: التي نجحت أجهزة الإعلام الغربية في استثارتها، مثل دول البلطيق أو مشكلة عودة التتار إلى القرم، أو مشكلات القومية الدينية في مولدافيا وغيرها.

ج- المشكلة اليهودية: التي ترتبط بقضية حقوق الإنسان، وقد اتخذ السوفييت موقفاً مرناً بالإفراج عن المنشقين وتخفيف قيود الهجرة أو الحصول على الجنسية المزدوجة.

د- دول أوروبا الشرقية: وتمثلت ضغوطها في الرغبة على الانفتاح تجاه الغرب، وهو ما أدى إلى صحوة التيار القومي، ودور الكنيسة بصفتها مركزاً للمقاومة الأيديولوجية والمبادئ التي قام عليها الموقف السوفيتي إزاء أوروبا، وكان إقرار استقلال الأحزاب الشيوعية الأوروبية وحقها السيادي ومسؤوليتها عن معالجة مشكلاتها. كما كان لمعاهدة غورباتشوف الشهيرة الأثر الأكبر؛ بالإضافة إلى الضغط الأميركي.

فلم يكن انتشار الدبابات والمدرعات في شوارع موسكو بعد إعلان حالة الطوارئ إثر مرض ألمّ بميخائيل غورباتشوف إلا ذريعة لقيادي الحزب الشيوعي وغيرهم من المسؤولين السياسيين لإعلان لجنة الدولة للطوارئ، التي اعتبرت أن غورباتشوف يقود البلاد للهاوية. بإعلان مشروع البرسترويكا الذي أثار جدلاً واسعاً من القياديين والسياسيين، وكانت المحطة الحاسمة حيث تم تعليق صلاحيات غورباتشوف كرئيس للبلاد. ثم توالت الأحداث التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991. ومن هنا نستطيع القول إن شراع السفينة العالمي أبحر باتجاه آخر وهو (سيادة القطب الواحد) وسطوع نجم الولايات المتحدة الأميركية حتى أطلق عليها كثير من المحللين السياسيين أنها (شرطي العالم) وهي كانت كذلك حيث إن كفة الكتلتين قد اختلت فلم يبق في العالم إلا الشرطي الأوحد الذي نزع فتيل غريمه بكثير من الحيل التي أشرنا إليها سلفاً! لم يكن ذلك مؤثراً في الدائرة المحيطة فحسب؛ بقدر ما أثر في إعادة تشكيل العالم؛ فبسقوطه أصبحت العولمة في دائرة التنفيذ والنفوذ.

ثم يأتي اليوم الثاني في عمر التاريخ العالمي ليخلق عالماً آخر مغايراً ومضطرباً وبعبارة أدق تشكيل العالم في نسيج آخر وفي لوحة من لوحات بيكاسو (الجيرنيكا) وكأنها قد سبقت عصرها لتنبئ بعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمر من حروب وويلات وسقوط دول وتحالفات وانقسامات حينها أطلق الرئيس دبليو بوش كلمته الشهيرة: من هو موافقنا فهو معنا ومن اختلف معنا فهو ضدنا ولاسيما أن أميركا قد أصبحت اللاعب الأكبر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

فاعتبرت السياسة الأميركية أنه لابد من إعلان الحرب على ما أسمته الإرهاب؛ فأدت هذه التغيرات إلى الحرب على أفغانستان وسقوط حركة طالبان، والحرب على العراق وسقوط حكم صدام حسين، بعدما أعلنت الولايات المتحدة بعد إحدى عشرة ساعة من أحداث سبتمبر أن أصابع الاتهام تتجه إلى تنظيم القاعدة وزعيمها ابن لادن الذي قُتل في يوم الاثنين 2/ مايو/2011 في مدينة أبوت آباد.

وها هو اليوم الثالث يوم ميلاد (السيد كوفيد 19). وكأنه قد أتى ليضع المرآة المحدبة لنقترب أكثر فنراه على صورته الحقيقية المكبرة ألف مرة مما كنا نراه! لنصحو على عالم حقيقي غير الذي كنا نتخيله؛ فكشف لنا هزال العالم وزيفه واتضح لنا أننا نحن الأكثر تحضراً وقوة وعقيدة وإنسانية، وأن صورة النظام العالمي لم تعد سوى وهم في مخيلتنا وأن بنود العولمة ما كانت سوى أداة تحكم ليس إلا! ومنها هزال الإمكانات الصحية والرعاية التي كنا نتخيل أنهم يعالجون بالنانو وبالذرة وبالذكاء الاصطناعي ولكننا رأينا آلاف البشر لا يحصلون على جهاز التنفس وهو أمر قد نمر به في بلادنا فنحن كما يطلقون "علينا شعوب العالم الثالث" ولكن لا يمكن تمريره في عقولنا بتلك الصورة الصادمة التي محت كل خيال كنا نتخيله. والأمر الأكثر أهمية هو السقوط المدوي لدعاة حقوق الإنسان، فها هي العجوز الإيطالية تهز العالم صرخاتها وهم ينزعون جهاز التنفس من فم زوجها العجوز ليعطوه لآخر أصغر سناً وكأنها مؤامرة على إبادة العجائز الذين باتوا يشكلون عبئاً على دولهم بعدما امتصوا رحيق أعمارهم.

ومن خلال رؤية تكاد أن تستبين نجد أن القوة القادمة تأتي من دول الشرق التي تعمل في صمت بلا ضجيج أو مؤامرات، وهو ما سوف يكون شعاراً للعالم الجديد (ما بعد كوفيد) بلا مؤامرات أو رغبة في الزعامة والسيطرة، فالصين أصبحت هي ومضة العالم الجديد. فلم نرَ برغم وطأة الأحداث أنها تصدر أوامر بالاستغناء عن العجائز في أتون المحارق في بلاد تغزو العالم تحت ستار حقوق الإنسان.

إنه اليوم الثالث الذي أتى ليغير العالم وأعتقد أن شعار العولمة قد بات في سلة المهملات وأن كل دولة ستعيد بنيتها من جديد؛ سوف تهتم بعلمائها وسوف تترك العالم يحيا في سلام كما كان قبل يومه الأول. وأن وهج الصدمة قد كشف الغطاء، وأن الدول ستتعافى بعلمائها الذين أهملتهم دولهم وسعت مهرولة خلف زيف الحقوقيين!