اللغة العربية.. تناقض الحلم والواقع

جريدة الرياض
20-12-2019

يوم اللغة العربية يجب أن يكون يوماً مرتبطاً بإرادة سياسية تمكن هذه اللغة وتجعلها فوق كل اللغات في موطنها على الأقل، وغير ذلك هو مجرد احتفالات وفقاعات كبيرة سئمنا منها ونعرف أنها لن تقدم ولن تؤخر، وسيظل الأمر كما هو عليه إذا لم يتراجع أكثر..

ضجت الأوساط الثقافية الرسمية وغير الرسمية بالاحتفال بيوم اللغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر من كل عام، وهو ضجيج إيجابي على كل حال، كون اللغة العربية بحاجة لمثل هذا الاهتمام وهذا الضجيج في مرحلة التراجع اللغوي الذي نعيشه في الوقت الراهن، لقد بلغ بنا الحال أن فقدنا الثقة في قدرتنا على النهوض بلغتنا، ووصلنا مرحلة السكون حتى بتنا نراقب ولا نستطيع أن نحرك ساكناً، هذا الوضع المتردي جعلنا نتعلق بأي شيء يعطينا بصيص أمل؛ وربما اللغة هي هذا الأمل والحلم في الخلق الحضاري الجديد.. اللغة العربية على وجه الخصوص بكل ما تحمله من تاريخ ومن عاطفة ومن ارتباط بالقرآن وما تعنيه من رمزية وتحد حضاري تجعل من هذه اللغة ذات بعد جدلي عميق يصنع هوية المستقبل كما صنع هوية الماضي.

على أن المحزن حقاً أن مجرد الاحتفال بيوم اللغة العربية لا يصنع التغيير المطلوب حتى على مستوى المحافظة على هذه اللغة وتطويرها. الجامعات والمؤسسات الحكومية احتفلت بيوم العربية لكنها لا توظف ولا ترقي إلا من يتقن اللغة الإنجليزية. تحتفل بالعربية صحيح، لكنها لا تريد هذه اللغة مجالاً لعملها وإنتاجها بل إنها تسخر ممن يتحدث العربية الفصحى وتراه جزءاً من التاريخ أو أنه لا يتحدث لغة العصر. إنه تناقض فادح بين الحلم والواقع. تناقض بين ما نحلم أن تكون العربية عليه وبين ما نمارسه فعلاً. نحتفل بالعربية لكننا نلحق أبناءنا بالمدارس العالمية ونفتخر أنهم يتحدثون الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها. أنه تناقض فج؛ فمهما احتفلنا بيوم اللغة العربية لن يجدي ذلك نفعاً طالما أننا لم نصل لقناعة داخلية أن مستقبلنا الحضاري ملتزم بهذه اللغة وأن قوة هويتنا هي في قوة العربية وتطورها.

كتبت منذ سنوات عن أن اللغة هي جزء من الاقتصاد. والاقتصاد لا يعترف بالعواطف بل بالعمل والابتكار وخلق الأفكار الجديدة. الاقتصاد مرتبط بمعاش الناس وقدرتهم على تسيير حياتهم والناس لديها الاستعداد الكامل أن تتحدث أي لغة من أجل ضمان العيش وتسيير الحياة. وهذا ما حدث ويحدث الآن فالعربية يبدو أنها لم تعد لغة الاقتصاد ولم تعد اللغة التي تسير شؤون الحياة فصار الناس يلجؤون للغة التي تمنحهم الفرص، فرص العمل والبروز والتحدث بلغة العصر، فأصبحت العربية بالنسبة لهم اللغة الثانية أو ربما الثالثة، يتذكرونها بعاطفة ويدافعون عنها بألسنتهم ولكن تأبى قلوبهم وأفعالهم ذلك.

وبما أن اللغة مرتبطة بالاقتصاد أصبحت هي لغة التعليم، خصوصاً بعد أن أصبح التعليم "سلعة" وتحول إلى تعليم من أجل الوظيفة وليس تعليماً من أجل العلم، فصارت المؤسسات التعليمية تفضل من يتحدث بلغة الاقتصاد العالمي ومن يستطيع أن يفتح أبواب الوظائف ولم يكن للعربية حظ كبير في ذلك. مؤسسات التعليم العالي لا تشجع البحث العلمي بالعربية لكنها لا تمانع أن تحتفل بيوم اللغة العربية ولا يمنع أن تتباكى على هذه اللغة ويدبج منتسبوها الخطب في مدحها لكنهم عندما يجلسون على مكاتبهم يعملون ما يناقض ذلك. كيف بربكم يمكن أن تتطور العربية ونحن نحرمها في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي من أن تكون هي لغة التفكير.

اللغة العربية تواجه تناقضاً حاداً بين ما نحلم به ونتمناه لهذه اللغة وبين ما نمارسه فعلاً، ما نقوم به يتوجه في أغلبه ضدها وضد تطورها. ما يحزن فعلاً هو أن دولة مثل فيتنام تحافظ على لغتها وتنقل لها سنوياً من خلال الترجمة أكثر مما تنقله الدول العربية مجتمعة. يوم اللغة العربية يجب أن يكون يوماً مرتبطاً بإرادة سياسية تمكن هذه اللغة وتجعلها فوق كل اللغات في موطنها على الأقل وغير ذلك هو مجرد احتفالات وفقاعات كبيرة سئمنا منها ونعرف أنها لن تقدم ولن تؤخر وسيظل الأمر كما هو عليه إذا لم يتراجع أكثر.