الكليات الإنسانية وتعزيز القيم التربوية

جريدة الرياض
09-11-2020

لاشك أن الجهود الإصلاحية تحتم الاحتكاك المباشر مع الناس على اختلاف أفكارهم وأعمارهم، في حين أن ترسيخ مبادئ الأخلاق الفاضلة يعد عصب الإصلاح الاجتماعي وقلبه النابض، ويتطلب التمرير وغرس الأفكار الإيجابية قدراً كبيراً من المرونة، وميكانيكية الأداء ومحاكاة جميع الأطياف من واقع معرفي وبأساليب موضوعية. إن التركيز على تنمية فكر الاعتدال وما يوجبه من استحضار محفزات تدفع في اتجاه طرق سبل الفضيلة يتطلب المواءمة بين الاستيعاب والتطبيق، وتطغى على هذه المسألة في بعض الأحيان منغصات تؤثر على مسار التطبيق، لاسيما إذا كان الإفراط في الحماس معياراً للإقناع وهو على النقيض من ذلك، وكذلك التضليل عبر المبالغة في سرد المواقف البطولية وما تخلفه من تشويش في الأذهان بغية ترغيب النشء في الاقتداء والاعتبار، غير أن ذلك حتماً يسقط الهدف إذا كانت الوسيلة مخالفة للواقع والرؤية الموضوعية المتزنة، ومن ثم فإن هذا الشرخ لا يلبث أن يقدم صورة مبتورة للمفهوم ليهيمن الشكل ويرزح المضمون تحت وطأة الجهل بالشيء وعدم تفسيره وتقديره على نحو متزن، وهكذا يتم حصر الجهد في نطاق ضيق لا يتجاوز تطبيق الإجراءات، دون النظر إلى الهدف الأسمى ألا وهو نتائج الإجراءات والتي تهدف الى الإصلاح وتقويم السلوكيات، وليس الخلل في الهدف بقدر ما يرتبط بسلامة الوسيلة فهي الجسر المؤدي إلى بلوغ الهدف وهذا هو الأهم، وفي شأن متصل فإن مسألة التصويب والمساهمة في إصلاح المجتمعات، يتطلب كذلك مهارات كمهارة الاتصال، وإدراك لمستوى النفسيات والتعامل معها بحرفية مهنية، وفقاً لتباين المستويات سواء من ناحية العمر أو الجنس، إلى جانب الإلمام باللغات المختلفة، إن خير من يتصدى لهذه المسائل الحساسة في تقديري، ويقع على عاتقهم جزء كبير في تمرير القيم الأخلاقية وترسيخها بالأذهان، خريجو الكليات الإنسانية بما تشمله من علم النفس، والاجتماع، واللغات، ومختلف فنون التربية والآداب، في الوقت الذي سيمهد ذلك الطريق لاحتواء المخالف وتوجيهه ونصحه وفق أسس علمية وحضارية.

إن إصلاح الاعوجاج وترميم الانحراف السلوكي لا يؤتي أكله ما لم تتم الإحاطة بالجزئيات والدوافع التي تؤدي إلى التوجه نحو هذا السلوك أو ذاك، فالمخالف من حيث المبدأ سيقبل النصح ويمضي ولن يلبث أن يعاود الكرة طالما أن القناعة لم يصلها مستوى التأثير ولم تحاكِ مشاعره وأحاسيسه جدوى العزوف عن هذه المخالفة أو تلك، وليست العبرة في رصد المخالفات، بل بالحد منها وإقلاع الأفراد عنها بقناعة، لا سيما ولله الحمد وأن التراث الإسلامي بقيمه الجميلة الفذة مغروسة في الأذهان ومنذ الصغر مما يساهم في تسهيل المهمة، وتكمن المهمة الأبرز في مسألة تمرير القبول أو بالأحرى جدية التقبل مضموناً لا شكلاً قناعة لا خوفاً، فهو -أي المخالف- حينما يتقبل النصح شكلاً ،فإنه ما إن يصبح في مأمن حتى يساوره نفس الشعور، مسألة التمكن من ملامسة الجانب المعنوي تتطلب قدرة فاعلة وحرفية يواكبها الرفق واللين والسماحة، إن التكامل المنهجي في هذا الإطار يؤسس للبيئة الحاضنة والملائمة في سياق المعالجات، ووفق أسس علمية لا تقف عند ردع المخالف فحسب، بل تتجذر لتصل إلى العمق والإجابة على، لماذا؟ وكيف؟ فلكل شيء سبب وهذه طبيعة الخلق، فإذا عولجت الأسباب في ضوء رصد وتحديد الدوافع بدقة، فإن مؤشر المخالفات سينخفض طبقاً لدرء التفكير فيها ووأدها في مهدها، وهنا تكمن البراعة في تمرير البرامج الإصلاحية، الخبرة في الميدان وقراءة الواقع بدقة وتجرد شأن لا يستهان به، وعلى هذا فإن مزج الخبرة بالمعرفة العلمية، سيساهم في تذليل الصعاب ويسير بالجهود نحو الإصلاح بآفاق أوسع، من هنا ينبغي أن لا يضعف التركيز والاهتمام بالكليات الإنسانية، والتي يقع على عاتقها جزء كبير في ضبط إيقاع الجانب التربوي والمعرفي، فعلم بلا أخلاق كشجر بلا أوراق، لتهيئة البنية المعرفية ووفق سياق تربوي خلاق يسير بها نحو الأمام، كرافد رئيس للطفرة التعليمية التي تشهدها بلادنا ولله الحمد، وفي إطار تحقيق أهداف رؤية 2030 المباركة.