بيروت لا تُحرق ولا تَغرق

جريدة الرياض
13-08-2020

ما أثقلَ تلك اللحظات ونحن نشاهد أجملَ عاصمة في شرقنا العربي يعتريها الدمار والرماد من جراء تفجير مرفأ بيروت يوم 4 / 8 / 2020، لأسباب معروفة، وأخرى طي الغموض، إنّ اختطاف جمال بيروت البهي عسير على كل من تسوّل له نفسه العبث بهذه المدينة التي تحمل عبق التاريخ وإرث الحضارات. فبيروت العروبة والعراقة ستنهض من رماد الحاضر كما هي الحال بالحقبات التاريخية الماضية، عندما غدر بها الصديق، وتكالب عليها الأقربون، وانقضّ عليها الأعداء، فلفظتهم ورفضتهم، وأعلنت أنها لن تموت، فكانت القيامة الجديدة من تحت الرماد لتضيء الشرق بأنوار العلم والمعرفة.

أنْ يكتب المرء عن بيروت في هذه الحالة المؤلمة، فلا بد أن يعتريه شعور بالحزن والألم والمسؤولية، ويستبدّ به الحنين؛ فهو يحمل في مخيلته أجمل الذكريات لهذه المدينة، بيروت ليست مدينة كأية مدينة أخرى، بيروت ينابيع الأدب والشعر والجمال في الوطن العربي. هي مدينة كسموبولوتية تحمل إرث الحضارات المتعاقبة، وتستمر في نغماتها الموسيقية الشرقية اللحن؛ فتسترق وعي كل مثقف.

بيروت هي الكلمة التي لامست مضامينها كلّ مواطن عربي، بيروت الصحيفة، ومعرض الكتاب، والحوارات الفكرية، وانطلاق الأحاسيس وتفتّح المدارك، بيروت العائلة التي ما انفكت ترحب بالقادم وتمنحه لذة الإياب، بيروت سعيد عقل، والرحابنة، ومقاهي شارع الحمراء، وفيروز، ودبكة الميجنا، والأخطل الصغير، واليازجي، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وأمين نخله.

وبيروت هي من ألهبت مشاعر الشعراء من الوطن العربي؛ فغنى لها نزار قباني، ومحمود درويش، ومعروف الرصافي، وأحمد شوقي، وغيرهم ممن أحبوا بيروت ولبنان وتغنوا بهما في قصائدهم، بيروت مدينة تماهت مع قرائح الشعراء وإبداع الأدباء وتألق المفكرين.

ما أصاب بيروت لا يعود سببه لبيروت أو للبنان، وإنما إلى بنية نظام فاشلة ابتلي به لبنان، فلم يُجدِ نفعاً تعاقبُ الحكومات، في ظل بنية متعفنة تعتمد المحاصصة والهيمنة الطائفية وعقلية القبيلة، وتحاصر توهج الشباب وأفكارهم المتجددة، وقد أصاب ناصيف حتي وزير خارجية لبنان المستقيل، قبل التفجير بأيام، بتحذيره من أنّ لبنان يتجه ليكون دولة فاشلة.

ما حصل في بيروت مأساة وكارثة إنسانية ينبغي على المجتمع الدولي، من منطلق المسؤولية الأخلاقية، التصدي لها ومحاسبة الفاعلين، إضافة لكونها جريمة ضد الإنسانية تهدد الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة. لقد وقفت المملكة ومن خلال مبادراتها الإنسانية أمام هذه المحنة، حيث هبّ مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية إلى تقديم المواد الغذائية لمتضرري تفجير بيروت، انطلاقا من الأخوة العميقة التي تربط شرايين الرياض ببيروت.

كل الأمل أن يبادر شباب لبنان لاستيعاب إفرازات هذه المأساة، بعيداً عن أية تسويات أثبتت في الماضي عقمها، وأنها مجرد أوهام، وبالتالي كان مصيرها الفشل.

ولعل ما يبعث على التفاؤل في ظل تلبد هذه الغيوم والمكاره هي رؤية أبناء لبنان وإصرارهم، أثناء وقوع هذه الكارثة الإنسانية، على العمل يداً بيد وكتفاً لكتف، وتضافر الجهود لإزالة الركام ورفع الأنقاض وتنظيف الأماكن والشوارع والزواريب وإنقاذ الجرحى والمصابين ومواساة الثكالى واليتامى.. والأهم من ذلك بعث الأمل.

الشباب والمواطنون اللبنانيون في هذه اللحظة القاتمة قرروا إعمار بيروت وتحدي أصحاب الذوات والنفوذ الذين أسهموا في خراب لبنان وجعلوه دولة فاشلة سنة بعد سنة وعلى كافة الأصعدة. الشباب أعلنوا أنّ بيروت لن تُحرق ولن تَغرق.

  • كاتب ودبلوماسي سعودي سابق