نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المائدة آية 106
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ

التفسير الميسر يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قرب الموت من أحدكم، فلْيُشْهِد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين عند الحاجة، وعدم وجود غيرهما من المسلمين، تُشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحلَّ بكم الموت، وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة -أي صلاة المسلمين، وبخاصة صلاة العصر-، فيقسمان بالله قسمًا خالصًا لا يأخذان به عوضًا من الدنيا، ولا يحابيان به ذا قرابة منهما، ولا يكتمان به شهادة لله عندهما، وأنهما إن فَعَلا ذلك فهما من المذنبين.

تفسير الجلالين
106 - (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) أسبابه (حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم) خبر بمعنى الأمر أي ليشهد ، وإضافة شهادة لـ "بين" على الاتساع ، وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر (أو آخران من غيركم) أي غير ملتكم (إن أنتم ضربتم) سافرتم (في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) توقفونهما صفة آخران (من بعد الصلاة) أي صلاة العصر (فيقسمان) يحلفان (بالله إن ارتبتم) شككتم فيها ويقولان (لا نشتري به) بالله (ثمنا) عوضا نأخذه بدله من الدنيا بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله (ولو كان) المقسم له والمشهود له (ذا قربى) قرابة منا (ولا نكتم شهادة الله) التي أمرنا بها (إنا إذا) إن كتمناها (لمن الآثمين)

تفسير القرطبي
فيه سبع وعشرون مسألة: الأولى: قال مكي رحمه الله : هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله.
قلت : ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء.
روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما كتمتما ولا اطلعتما) ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال : فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية.
لفظ الدارقطني.
وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له : بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله؛ قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله {بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء.
قال أبو عيسى : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح.
وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تيم وأخيه عدي، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج مع تميم وأخيه عدي؛ وذكر الحديث.
وذكر النقاش قال : نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي؛ كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال : أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشا مموها بالذهب؛ وذكر الحديث.
وذكره سنيد وقال : فلما قدموا الشام مرض بديله وكان مسلما؛ الحديث.
الثانية: قوله تعالى {شهادة بينكم} ورد {شهد} في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة : منها قوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة : 282] قيل : معناه أحضروا.
ومنها {شهد} بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة كقوله تعالى{شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران : 18].
ومنها {شهد} بمعنى أقر؛ كقوله تعالى{والملائكة يشهدون} [النساء : 166].
ومنها {شهد} بمعنى حكم؛ قال الله تعالى {وشهد شاهد من أهلها} [يوسف : 26].
ومنها {شهد} بمعنى حلف؛ كما في اللعان.
{وشهد} بمعنى وصى؛ كقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} وقيل : معناه هنا الحضور للوصية؛ يقال : شهدت وصية فلان أي حضرتها.
وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين.
واختار هذا القول القفال.
وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة.
واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين.
الثالثة: قوله تعالى {بينكم} قيل : معناه ما بينكم فحذف {ما} وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال يوما شهدناه سليمان وعامرا ** أراد شهدنا فيه.
وقال تعالى {بل مكر الليل والنهار} [سبأ : 33] أي مكركم فيهما.
وأنشد : تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ** صفاحا وعني بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف : 78] أي ما بيني وبينك.
الرابعة: قوله تعالى{إذا حضر} معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت.
وهذا كقوله تعالى{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل : 98].
وكقوله {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} [الطلاق : 1] ومثله كثير.
والعامل في {إذا} المصدر الذي هو {شهادة}.
الخامسة:قوله تعالى {حين الوصية اثنان} {حين} ظرف زمان والعامل فيه {حضر} وقوله{اثنان} يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك {ذوا عدل} بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن {ذواتا} [الرحمن : 48] لا يصلح إلا للمؤنث.
وارتفع {اثنان} على أنه خبر المبتدأ الذي هو {شهادة} قال أبو علي {شهادة} رفع بالابتداء والخبر في قوله {اثنان} التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى {وأزواجه أمهاتهم}[الأحزاب : 6] أي مثل أمهاتهم.
ويجوز أن يرتفع {اثنان} بـ {شهادة}؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان.
السادسة: قوله تعالى{ذوا عدل منكم} {ذوا عدل} صفة لقوله {اثنان} و{منكم} صفة بعد صفة.
وقوله {أو آخران من غيركم} أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين.
وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال : اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال : الأول : أن الكاف والميم في قوله{منكم} ضمير للمسلمين {وآخران من غيركم } للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث.
وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما.
هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم.
وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به.
واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون {منكم} من المؤمنين ومعنى {من غيركم} يعني الكفار.
قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما.
القول الثاني : أن قوله سبحانه {أو آخران من غيركم} منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة : 282] وقوله {وأشهدوا ذوي عدل منكم}[الطلاق : 2] ؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل؛ وأن فيها {ممن ترضون من الشهداء} فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهل الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.
قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم.
ويقوي هذا أن سورة [المائدة] من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها.
وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ.
القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله{منكم} أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان.
ومعنى قوله{أو آخران من غيركم} أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس : وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى {آخر} في العربية من جنس الأول؛ تقول : مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله {آخر} يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله {أو آخران من غيركم} أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال {من غيركم} من غير عشيرتكم من المسلمين.
وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم {من غيركم} من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية {يا أيها الذين آمنوا} فخوطب الجماعة من المؤمنين.
السابعة: استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال : ومعنى {أو آخران من غيركم} أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له : أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها.
فإن قيل : هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى.
والله أعلم.
الثامنة: قوله تعالى{إن أنتم ضربتم في الأرض} أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض {فأصابتكم مصيبة الموت} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛ وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا : والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا).
ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له؛ فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول : ما لك لا تقوم ؟! ما لك لا تنبعث ؟! هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة؛ ما شأنك ؟! ما الذي كان يحملك ؟! ما الذي كان يبعثك ؟! ما الذي صرعك؟! ما الذي عن الحركة منعك ؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه، متعجبا من أمره.
التاسعة: قوله تعالى {تحبسونهما} قال أبو علي{تحبسونهما} صفة لـ {آخران} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله {إن أنتم}.
وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين : منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته.
العاشرة: فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة.
وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته).
قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له.
قال الخطابي : الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه.
وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن.
الحادية عشرة: قوله تعالى {من بعد الصلاة} يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة.
وقال الحسن : صلاة الظهر.
وقيل : أي صلاة كانت.
وقيل : من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي.
وقيل : إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ وفي الصحيح (من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان).
الثانية عشرة: هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء : أحدها : الزمان كما ذكرنا.
الثاني : المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون : لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم (باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره).
وقال مالك والشافعي : ويُجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها، فيحلف بين الركن والمقام، ويُجلب إلى المدينة من كان من أعمالها فيحلف عند المنبر.
الثالث : الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة؛ لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر.
وقال ابن كنانة : يحلف جالسا؛ قال ابن العربي : والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.
قلت : قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه : (فانطلق ليحلف) القيام والله أعلم أخرجه مسلم.
الرابع : التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى{فيقسمان بالله} وقوله {قل إي وربي} [يونس : 53] وقال {وتالله لأكيدن أصنامكم}[الأنبياء : 57] وقوله عليه السلام : (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
وقول الرجل : والله لا أزيد عليهن.
وقال مالك : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق، وما ادعاه علي باطل؛ والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يعني لرجل حلفه (احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء) يعني للمدعي؛ قال أبو داود : أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت.
وقال الكوفيون : يحلف بالله لا غير، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين؛ فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف.
قال ابن العربي : وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة.
وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس، ولم يصح.
قلت : وفي كتاب المهذب وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال : ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي : وهو حسن.
قال ابن المنذر : وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف.
قلت : قد تقدم في الأيمان : وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق : لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر.
الثالثة عشرة: اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك : لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم.
وقال الشافعي : لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد.
الرابعة عشرة: قوله تعالى {فيقسمان بالله} الفاء في {فيقسمان} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن {تحسبونها} معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال : إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة : وإنسان عيني يحسر الماء مرة ** فيبدو وتارات يجم فيغرق تقديره عندهم : إذا حسر بدا.
الخامسة عشرة: واختلف من المراد بقوله {فيقسمان}؟ فقيل : الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل : الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما.
قال ابن العربي مبطلا لهذا القول : والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟! هذا ما لا يلتفت إليه.
قلت : وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين.
وقد قيل : إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال.
السادسة عشرة: قوله تعالى {إن ارتبتم} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين.
قال ابن عطية : أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحلفهما بعد العصر : (بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته) فأمضى شهادتهما.
قال ابن عطية : وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض، وتقع مع ذلك اليمين عنده؛ وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي؛ فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة.
قال ابن العربي : يمين الريبة والتهمة على قسمين : أحدهما : ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين.
الثاني : التهمة المطلقة في الحقوق والحدود، وله تفصيل بيانه في كتب الفروع؛ وقد تحققت ههنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات.
السابعة عشرة: الشرط في قوله {إن ارتبتم} يتعلق بقوله {تحبسونهما} لا بقوله {فيقسمان} لأن هذا الحبس سبب القسم.
الثامنة عشرة: قوله تعالى {لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى} أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا.
وإضمار القول كثير، كقوله{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب.
سلام عليكم} [الرعد: 23، 24] أي يقولون سلام عليكم.
والاشتراء ههنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.
التاسعة عشرة: اللام في قوله {لا نشتري} جواب لقوله{فيقسمان} لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو {لا} و{ما} في النفي، {وإن} واللام في الإيجاب.
والهاء في {به} عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى : لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض.
ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدم في سورة [النساء].
الموفية عشرين: قوله تعالى{ثمنا} قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة : إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال : يكون صاحبها أسوة الغرماء.
وقال مالك : هو أحق بها في الفلس دون الموت.
وقال الشافعي : صاحبها أحق بها في الفلس والموت.
تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها.
وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره.
الحادية والعشرون: قوله تعالى {ولا نكتم شهادة الله} أي ما أعلمنا الله من الشهادة.
وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في (التحصيل) وغيره.
الثانية والعشرون: قوله تعالى {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} قال عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.
وقال الزجاج : أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله {من الذين استحق عليهم الأوليان}.
عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال : عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى {وكذلك أعثرنا عليهم}[الكهف : 21].
لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم : عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه.
وعثر الفرس عثارا قال الأعشى : بذات لوث عفرناة إذا عثرت ** فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء.
والضمير في {أنهما} يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل{اثنان} عن سعيد بن جبير.
وقيل : على الشاهدين؛ عن ابن عباس.
و{استحقا} أي استوجبا {إثما} يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة.
وقال أبو علي : الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة.
وقال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام الثالثة والعشرون: قوله تعالى {فآخران يقومان مقامهما} يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال {آخران} بحسب أن الورثة كانا اثنين.
وارتفع {آخران} بفعل مضمر.
{يقومان} في موضع نعت.
{مقامهما} مصدر، وتقديره : مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه الرابعة والعشرون: قوله تعالى {من الذين استحق عليهم الأوليان} قال ابن السري : المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية.
و{الأوليان} بدل من قوله {فآخران} قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز.
وقيل : النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى{كمشكاة فيها مصباح} [النور : 35] ثم قال {المصباح في زجاجة} [النور : 35] ثم قال{الزجاجة}[النور : 35].
وقيل : وهو بدل من الضمير في {يقومان} كأنه قال : فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف؛ التقدير : فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان.
وقال ابن عيسى{الأوليان} مفعول {استحق} على حذف المضاف؛ أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل {على ملك سليمان} [البقرة : 102] أي في ملك سليمان.
وقال الشاعر : متى ما تنكروها تعرفوها ** على أقطارها علق نفيث أي في أقطارها.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {الأولين} جمع أول على أنه بدل من {الذي} أو من الهاء والميم في {عليهم} وقرأ حفص {استحق} بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله {الأوليان} والمفعول محذوف، والتقدير : من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.
وقيل : استحق عليهم الأوليان رد الأيمان.
وروي عن الحسن {الأولان} وعن ابن سيرين {الأولين} قال النحاس : والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن {الأولان} الخامسة والعشرون: قوله تعالى {فيقسمان بالله} أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما فذلك قوله {لشهادتنا أحق من شهادتهما} أي يميننا أحق من يمينهما؛ فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى {فشهادة أحدهم أربع شهادات} [النور : 6].
وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : قام رجلان من أولياء الميت فحلفا.
{لشهادتنا أحق} ابتداء وخبر.
وقوله {وما اعتدينا} أي تجاوزنا الحق في قسمنا.
{إنا إذا لمن الظالمين} أي إن كنا حلفنا على باطل، وأخذنا ما ليس لنا.
السادسة والعشرون: قوله تعالى {ذلك أدنى} ابتداء وخبر.
{أن} في موضع نصب.
{يأتوا} نصب بـ {أن}.
{أو يخافوا} عطف عليه.
{أن ترد} في موضع نصب بـ {يخافوا}.
{إيمان بعد أيمانهم} قيل : الضمير في {يأتوا} و{يخافوا} راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية.
وقيل : المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم.
السابعة والعشرون: قوله تعالى {واتقوا الله واسمعوا} أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} فسق يفْسُق ويفْسِق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم.

تفسير ابن كثير اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل إنه منسوخ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان ""قاله ابن جرير رحمه اللّه تعالى""فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان} هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم فقيل: تقديره شهادة اثنين شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: دل الكلام على تقدير: أن يشهد اثنان، وقوله تعالى: {ذوا عدل} وصف الإثنين بأن يكونا عدلين، وقوله: {منكم} أي من المسلمين، قاله الجمهور. قال ابن عباس رضي اللّه عنه في قوله {ذوا عدل منكم}، قال: من المسليمن. قال ابن جرير: وقال آخرون عني ذلك {ذوا عدل منكم} أي من أهل الموصي، وقوله: {أو آخران من غيركم} قال ابن أبي حاتم، قال ابن عباس في قوله {أو آخران من غيركم} قال: من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب ""وروي عن شريح وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل نحو ذلك""وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: {منكم} أن المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد ههنا {أو آخران من غيركم} أي من غير قبيلة الموصي، وقوله تعالى: {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي سافرتم {فأصابتكم مصيبة الموت} وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما قال ابن جرير عن شريح: لا تجوزشهادة اليهود والنصارى إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة، فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً. وقال ابن جرير عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها، رواه ابن جرير. وفي هذا نظر واللّه أعلم. وقال ابن جرير: اختلف في قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما؟ على قولين أحدهما : أن يوصي إليهما، سئل ابن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية قال: هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، والقول الثاني : أنهما يكونا شاهدين، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرها إن شاء اللّه وبه التوفيق. وقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة} قال ابن عباس: يعني صلاة العصر، وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين، وقال السدي عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، {فيقسمان بالله} أي فيحلفنان باللّه {إن ارتبتم} أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلَّا فيحلفان حينئذ باللّه {لا نشتري به} أي بأيماننا {ثمنا} أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة {ولو كان ذا قربى} أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه، {ولا نكتم شهادة اللّه} اأضافها إلى اللّه تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها. {إنا إذاً لمن الآثمين} أي فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية، ثم قال تعالى: {فإن عثر على أنهما استحقا إثماً} أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلّا شيئاً من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عيهم الأوليان} أي متى تحقق بالخبر الصحيح خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحق من شهادتما}، أي لقولنا إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة، {وما اعتدينا} أي فيما قلنا فيهما من الخيانة {إنا إذا لمن الظالمين} أي إن كنا قد كذبنا عليهما، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام. وقد روي عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمنا بتركته، فقدوا جاما من فضة مخوصاً بالذهب، فأحلفهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ووجدوا الجام بمكة، فقيل: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا باللّه لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} ""أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي : حسن غريب""الآية، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي اللّه عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال: فأحلفهما بعد العصر، باللّه ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما، فقوله: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظاهر - واللّه أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي اللّه عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، واللّه أعلم. وقال السدي في الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} قال: هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وماعليه، قال: هذا في الحضر {أو آخران من غيركم} في السفر {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم}، قال ابن عباس رضي اللّه عنه: كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر، فقلت: إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان باللّه لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنا إذاً لمن الآثمين: أن صاحبهم لهذا أوصى، وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لكما شهادة وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك فإن {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} رواه ابن جرير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا باللّه أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فذلك قوله تعالى: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا {فآخران يقومان مقامهما} يقول من الأولياء، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين: وتجوز شهادة الأولياء ""ذكره ابن جرير رحمه اللّه""وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وقوله تعالى: { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي شرعية هذه الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين إن استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي. وقوله: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس، إن ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} ثم قال: {واتقوا اللّه} أي في جميع أموركم، {واسمعوا} أي وأطيعوا، {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি