نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المائدة آية 42
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

التفسير الميسر هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام، فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم، أو اتركهم، فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء، وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين.

تفسير الجلالين
42 - هم (سماعون للكذب أكالون للسحُت) بضم الحاء وسكونها أي الحرام كالرشا (فإن جاؤوك) لتحكم بينهم (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) هذا التخيير منسوخ بقوله {وأن احكم بينهم} الآية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا وهو أصح قولي الشافعي فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب إجماعا (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت) بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) بالعدل (إن الله يحب المقسطين) العادلين في الحكم أي يثيبهم

تفسير القرطبي
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى {سماعون للكذب} كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم.
الثانية: وقوله تعالى {أكالون للسحت} على التكثير.
والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة؛ قال الله تعالى {فيسحتكم بعذاب}.
وقال الفرزدق : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحتا أو مجلف كذا الرواية.
أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى؛ لأن معنى لم يدع لم يبق.
ويقال للحالق : اسحت أي استأصل.
وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها.
وقال الفراء : أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول؛ فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم.
وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان.
قلت : والقول الأول أولى؛ لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له.
قال ابن مسعود وغيره : السحت الرُّشا.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به) قالوا : يا رسول الله ؛وما السحت؟ قال : (الرشوة في الحكم).
وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها.
وقال ابن خويزمنداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها.
ولا خلاف بين السلف أن آخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام.
وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك.
قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله؛ لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه.
والله أعلم.
وقال عليه الصلاة والسلام : (لعن الله الراشي والمرتشي).
وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية.
وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال : لا؛ إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا قد لزمك؛ فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام.
قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ؛ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة.
وهذا كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع؛ قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.
قلت : الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته.
وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه؛ قال ابن عبدالبر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل.
وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام.
وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه.
والسُحْت والسُحُت لغتان قرئ بهما؛ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها.
وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع {أكالون للسحت} بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته؛ يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد.
وقال الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا.
قوله تعالى {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} هذا تخيير من الله تعالى؛ ذكره القشيري؛ وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود.
ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا.
فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم.
قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي.
واختلفوا في الذميين؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير؛ روي، ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما.
وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان.
وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا.
قال ابن خويزمنداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم.
فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام.
وأما إجبارهم على حكم المسلم فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين.
وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات؛ لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد.
والله أعلم.
وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن عمر بن عبدالعزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وأن على الحاكم أن يحكم بينهم؛ وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم.
وروي عن عكرمة أنه قال {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نسختها آية أخرى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}[المائدة : 49].
وقال مجاهد : لم ينسخ من [المائدة] إلا آيتان؛ قوله : {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نسختها {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}؛ وقوله{لا تحلوا شعائر الله}[المائدة : 2] نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}[التوبة : 5].
وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله.
قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا.
وقال النحاس في [الناسخ والمنسوخ] له قوله تعالى {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}.
وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبدالعزيز والسدي؛ وهو الصحيح من قول الشافعي؛ قال في كتاب [الجزية] : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}[التوبة : 29].
قال النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله {وهم صاغرون} أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم؛ فإذا وجب هذا فالآية منسوخة.
وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهم بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.
وقال الباقون : يحكم؛ فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس؛ ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه.
قال النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر؛ منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل {وأن احكم بينهم} يحتمل أمرين : أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك.
والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا؛ فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}[النساء : 135].
وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : (أهكذا حد الزاني عندكم) فقالوا : نعم.
فدعا رجلا من علمائهم فقال : (سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم) فقال : لا.
الحديث، وقد تقدم.
قال النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث.
فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل له : ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر بن عبدالبر : لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج؛ لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}[المائدة : 41] يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه.
وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره.
فإن قال قائل : ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه.
قيل له : حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته.
ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
قوله تعالى {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله؛ فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} النفس بالنفس، ونزلت {أفحكم الجاهلية يبغون}[المائدة : 50].

تفسير ابن كثير نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة اللّه ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع اللّه عزَّ وجلَّ {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}، أي أظهروا بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون، {ومن الذين هادوا} أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم {سماعون للكذب} أي مستجيبون له منفعلون عنه،{سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك،{يحرفون الكلم من بعد مواضعه} أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه. والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه، واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم التحميم: صبغ الوجه بالسواد والإركاب على حمار مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم، فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين اللّه، يكون نبي من أنبياء اللّه قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك. وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك عن نافع عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما: أن اليهود جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وأمرأة زنيا، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم: فقالو: نفضحهم ويجلدون، قال عبد اللّه بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد اللّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: (ما تجدون في التوراة على من زنى؟) قالوا: نسود وجوههما ونحممها ونحملهما، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} قال فجاءوا بها فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد اللّه بن سلام وهو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : مره فليرفع يده فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما. قال عبد اللّه بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. عن البراء بن عازب قال: مر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهودي محمّم مجلود، فدعاهم، فقال: (أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) فقالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟) فقال: لا واللّه، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا: الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)، قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إلى قوله {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إلى قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال في اليهود، إلى قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون} قال في اليهود، {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} قال: في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من اللّه عزَّ وجّل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطئوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة. فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى اللّه عليه وسلم، إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لإعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: {إن أوتيتم هذا} أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه {وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي من قبوله واتباعه. قال اللّه تعالى:{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب} أي الباطل {أكالون للسحت} أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر اللّه قلبه وأنى يستجيب له؟ ثم قال لنبيه: {فإن جاؤوك} أي يتحاكمون إليك {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا} أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه}، {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل {إن الله يحب المقسطين}. ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلمو للذين هادوا} أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، {والربانيون والأحبار} أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، والأحبار وهم العلماء {بما استحفظوا من كتاب اللّه} أي بما استودعوا من كتاب اللّه الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به {وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني} أي لا تخافوا منهم وخافوا مني {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} فيه قولان سيأت بيانهما. سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات قال أبو جعفر بن جرير، عن عكرمة عن ابن عباس: إن الآيات التي في المائدة قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم - إلى المقسطين} إنما أنزلت في الدية في بني النضير و بني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه ذلك فيهم، فحملهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، واللّه أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي، ثم قال ابن جرير، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه إليه فقالوا: بيننا وبينكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} ورواه أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات، في ذلك كله، واللّه أعلم. ولهذا قال بعد ذلك: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، واللّه سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال البراء عازب، وابن عباس، والحسن البصري، وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب. زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم، قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي اللّه لهذه الأمة بها، وقال السدي {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} يقول: من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال ابن عباس قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم اللّه المنزل في الكتاب. وقال ابن جرير عن الشعبي {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: هذا في المسلمين، {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون} قال: هذا في اليهود {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} قال: هذا في النصارى، وقال الثوري عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق وقال وكيع عن طاووس {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি