نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المائدة آية 34
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

التفسير الميسر لكن مَن أتى من المحاربين من قبل أن تقدروا عليهم وجاء طائعًا نادمًا فإنه يسقط عنه ما كان لله، فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده، رحيم بهم.

تفسير الجلالين
34 - (إلا الذين تابوا) من المحاربين والقطاع (من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور) لهم ما أتوه (رحيم) بهم عبر بذلك دون فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم فاذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع ولا يصلب وهو أصح قولي الشافعي ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا وهو أصح قوليه أيضا

تفسير القرطبي
فيه خمس عشرة مسألة: الأولى: اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين؛ روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك : أن قوما من عكل - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم؛ فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وفي رواية : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم؛ وفي رواية : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي به قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} الآية.
وفي رواية قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا.
وفي البخاري قال جرير بن عبدالله في حديثه : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال جرير : فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (النار).
وقد حكى أهل التواريخ والسير : أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا.
وكان اسمه يسار وكان نوبيا.
وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة.
وفي بعض الروايات عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.
وروي عن ابن عباس والضحاك : أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} إلى قوله {غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه.
وممن قال : إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}[الأنفال : 38] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (الإسلام يهدم ما قبله) أخرجه مسلم؛ والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد.
قال ابن المنذر : قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول : وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ وهو قوله جل ثناؤه {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.
وحكى الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فوقف الأمر على هذه الحدود.
وروى محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود؛ يعني حديث أنس؛ ذكره أبو داود.
وقال قوم منهم الليث بن سعد : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ؛ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد.
قال أبو الزناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك؛ فأنزل الله تعالى في ذلك {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا} الآية.
أخرجه أبو داود.
قال أبو الزناد : فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد.
وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتين، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة؛ فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قلت : وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي؛ ولذلك قال الله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة.
والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا؛ فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد.
وقال تعالى في حق الكفار {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}[الأنفال : 38].
وقال في المحاربين {إلا الذين تابوا} الآية؛ وهذا بين.
وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب؛ قال الله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}[البقرة : 194] فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم.
وحكى الطبري عن السدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك؛ فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل؛ وفي صحيح البخاري : فأمر بمسامير فأحميت لهم.
ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود.
وفي قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} استعارة ومجاز؛ إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد.
والمعنى : يحاربون أولياء الله؛ فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}[البقرة : 245] حثا على الاستعطاف عليهم؛ ومثله في صحيح السنة (استطعمتك فلم تطعمني).
الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في [البقرة].
الثانية: واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة؛ قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة؛ وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور؛ قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة.
وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر؛ هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان.
والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا.
الثالثة: واختلفوا في حكم المحارب؛ فقالت طائفة : يقام عليه بقدر فعله؛ فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي؛ قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم.
وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة؛ قال الليث : بالحربة مصلوبا.
وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه؛ قال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء.
ونحوه قول الأوزاعي.
وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب؛ وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام؛ قال : وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس.
وقال أحمد : إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي.
وقال قوم : لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب؛ وحكي عن الشافعي : أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة.
وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال : الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية؛ قال ابن عباس : ما كان في القرآن {أو} فصاحبه بالخيار؛ وهذا القول أشعر بظاهر الآية؛ فإن أهل القول الأول الذين قالوا {أو} للترتيب وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون : يقتل ويصلب؛ ويقول بعضهم : يصلب ويقتل؛ ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى؛ وليس كذلك الآية ولا معنى {أو} في اللغة؛ قال النحاس.
واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال (من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه).
قال ابن عطية : وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا.
الرابعة: قوله تعالى {أو ينفوا من الأرض} اختلف في معناه؛ فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه؛ عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري.
حكاه الرماني في كتابه؛ وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود؛ وقال الليث بن سعد والزهري أيضا.
وقال مالك أيضا : ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني.
وقال مالك أيضا والكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره؛ واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك : خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم؛ والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب، الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب؛ ومنه الحديث (الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة).
وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح؛ قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح.
الخامسة: قوله تعالى {أو ينفوا من الأرض} النفي أصله الإهلاك؛ ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام؛ ومنه النفاية لردي المتاع؛ ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو.
قال الراجز : كأن متنيه من النفي ** مواقع الطير على الصفي السادسة: قال ابن خويزمنداد : ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق.
وقد قيل : يراعى في ذلك النصاب ربع دينار؛ قال ابن العربي، قال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق؛ وقال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة؛ ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس.
وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر؛ حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب.
قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين.
قلت : اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ؛ والحضيض الحفرة في أسفل الوادي؛ كذا قال أهل اللغة.
السابعة: ولا خلاف في أن الحرّابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل؛ وللشافعي قولان : أحدهما : أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص؛ وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال؛ قال الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا} فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء.
الثامنة: وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع.
وقال الشافعي : لا قتل إلا من قتل؛ وهذا أيضا ضعيف؛ فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم؛ وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى.
التاسعة: وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته؛ ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل؛ فإن أخذوا وجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال؛ وما أتلفوه من مال لأحد غرموه؛ ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاؤوا تائبين وهي : العاشرة: لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه.
وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطالب به؛ وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا؛ قال ابن خويزمنداد : واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال؛ هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما سقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
الحادية عشرة: وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب؛ فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام؛ جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى.
قلت : فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها؛ ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي : الثانية عشرة: وتفسير مجاهد لها؛ المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة؛ وليس بصحيح؛ فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا.
وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى{ويسعون في الأرض فسادا}.
الثالثة عشرة: قال علماؤنا : ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر.
روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي؟ قال : (فانشد بالله) قال : فإن أبوا علي.
قال : (فانشد بالله) قال : فإن أبوا علي قال : (فانشد بالله) قال : فإن أبوا علي قال : (فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار) وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال : (فلا تعطه مالك) قال : أرأيت إن قاتلني؟ قال : (فقاتله) قال : أرأيت إن قتلني؟ قال : (فأنت شهيد) قال : فإن قتلته؟ قال : (هو في النار).
قال ابن المنذر : ورينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم؛ هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم : إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان؛ فإن جماعة أهل الحديث لا يحاربه ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.
قلت : وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال.
والله أعلم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى {ذلك لهم خزي في الدنيا} لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض؛ كما قال عز وجل {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}[المزمل : 20] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم؛ فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة.
وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة) والله أعلم.
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره.
ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[النساء : 116] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.
الخامسة عشرة: قوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله {فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط.
ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم.
وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق لآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
وقيل : أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وأمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود؛ وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع.
وقيل : إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم؛ كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب؛ فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة [يونس]؛ فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.
والله أعلم.

تفسير ابن كثير يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدوانا {كتبنا على بني إسرائيل} أي شرعنا لهم وأعلمناهم {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال: {فكأنما أحيا الناس جميعاً} وقال الأعمش عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، مأجوراً غير مأزور، قال: فانصرفت ولم أقاتل. وقال ابن عباس هو كما قال اللّه تعالى: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه؛ وهكذا قال مجاهد، ومن أحياها أي كف عن قتلها. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {فكأنما قتل الناس جميعاً} يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاً. وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر، وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم. وقال مجاهد في رواية {ومن أحياها} أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. وقال الحسن وقتادة في قوله: أنه {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً} هذا تعظيم لتعاطي القتل. قال قتادة عظيم واللّه وزرها، وعظيم واللّه أجرها. وقال ابن المبارك عن سليمان الربعي قال، قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا. وقال الإمام أحمد: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول اللّه اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها) قال: بل نفس أحييها، قال: (عليك بنفسك)، وقوله تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات} أي بالحجيج والبراهين والدلائل الواضحة {ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة و النضير يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث قول: {ثم أنتم هؤلاء تقلتون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}. وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} الآية. المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الارض، وقد قال الله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل واللّه لا يحب الفساد}، ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى - إن اللّه غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب. ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال ابن عباس في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} الآية. قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن جرير. وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في الحرورية {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها) فقالوا: بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم. وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون، وعند البخاري، قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللّه ورسوله. وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك: أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة؛ قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشأ حتى ماتوا، ونزلت: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} ""رواه أبو داود والترمذي والنسائي""الآية. وقد رواه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قلت: قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، وساتاقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه اللّه وأثابه. وقال ابن جرير: كان أناس أتوا رسول للّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: (أن يا خيل اللّه اركبي)، قال: فركبوا، لا ينتظر فارس فارساً، قال: وركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم، حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللّه: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، قال: فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسمر الأعين، قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال: (ولا تمثلوا بشيء) وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا القول فيه نظر. ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقا بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال: لم يسمر النبي أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر. فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم. ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: {ويسعون في الأرض فساداً} وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} قال ابن عباس في الآية: من شَهَر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِرَ به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك، ومستند هذا القول أن ظاهر (أو) للتخيير كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وكقوله في كفارة اليمين: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة. واختلفوا، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وباللّه الثقة، وعليه التكلان. وأما قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال عطاء الخراساني : ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان: أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام. وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه. وقوله تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال: أخذ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً، يَعْضَهُ: يرمي غيره بالإفك والكذب والبهتان فمن وفى منكم فأجره على اللّه تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره اللّه فأمره إلى اللّه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وعن علي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فاللّه أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فاللّه أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه) ""رواه أحمد والترمذي وابن ماجة "" وقال ابن جرير {ذلك لهم خزي في الدنيا}: يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم. وقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم} أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك، فظاهر. وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة. وروى ابن جرير عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي اللّه عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو موسى: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فإن يك صادقاً فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء اللّه، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم روى ابن جرير أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: {قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم} فوقف عليه، فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه، ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি