نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المائدة آية 22
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ

التفسير الميسر قالوا: يا موسى، إن فيها قومًا أشداء أقوياء، لا طاقة لنا بحربهم، وإنَّا لن نستطيع دخولها وهم فيها، فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون.

تفسير الجلالين
22 - (قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين) من بقايا عاد طوالاً ذي قوة (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) لها

تفسير القرطبي
قوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه؛ فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له؛ أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى.
وروي عن عبدالله بن كثير أنه قرأ {يا قوم اذكروا} بضم الميم، وكذلك ما أشبهه؛ وتقديره يا أيها القوم.
{إذ جعل فيكم أنبياء} لم ينصرف؛ لأنه فيه ألف التأنيث.
{وجعلكم ملوكا} أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق؛ فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما.
قال السدي : ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله.
وقال قتادة : إنما قال {وجعلكم ملوكا} لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف؛ لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط.
وقيل : جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن؛ روي معناه عن جماعة من أهل العلم.
قال ابن عباس : إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك.
وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك؛ وهو قول عبدالله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال : سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبدالله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم.
قال : ألك منزل تسكنه؟ قال : نعم.
قال : فأنت من الأغنياء.
قال : فإن لي خادما.
قال : فأنت من الملوك.
قال ابن العربي : وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دار وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق.
وقال ابن عباس ومجاهد : جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام، أي هم مخدومون كالملوك.
وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل؛ وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة، وزادوا الزوجة؛ وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك؛ ذكره النحاس.
ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك؛ وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : (من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
قوله تعالى {وآتاكم} أي أعطاكم {ما لم يؤت أحدا من العالمين} والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين؛ وهو وجه الكلام.
مجاهد : والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام.
وقيل : كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم.
وقيل : قلوبا سليمة من الغل والغش.
وقيل : إحلال الغنائم والانتفاع بها.
قلت : وهذا القول مردود؛ فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح؛ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنقذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه.
ومعنى {من العالمين} أي عالمي زمانكم؛ عن الحسن.
وقال ابن جبير وأبو مالك : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله.
وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين.
و{المقدسة} معناه المطهرة.
مجاهد : المباركة؛ والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه.
قتادة : هي الشام.
مجاهد : الطور وما حوله.
ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء.
قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض : الأردن.
وقول قتادة يجمع هذا كله.
{التي كتب الله لكم} أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم.
ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار؛ فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة؛ حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال : إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا؛ على ما تقدم.
وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد، وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر.
قلت : وهذا أشبه؛ فإنه يقال : إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة.
قلت : ولا تعارض بين هذا والأول؛ فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا؛ على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى.
وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل.
وقال الكلبي : كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم.
فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوفنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم.
قوله تعالى {ولا ترتدوا على أدباركم} أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين.
وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد.
قوله تعالى {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين} أي عظام الأجسام طوال، وقد تقدم؛ يقال : نخلة جبارة أي طويلة.
والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر.
وقال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد؛ فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه؛ فإنه يجبر غيره على ما يريده؛ وأجبره أي أكرهه.
وقيل : هو مأخوذ من جبر العظم؛ فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو بطل.
وقيل : إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه.
قال الفراء : لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين؛ جبار من أجبر ودراك من أدرك.
ثم قيل : كان هؤلاء من بقايا عاد.
وقيل : هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا؛ قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته.
وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع؛ وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله.
وقيل : بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة.
ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم.
وقال الكلبي : عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت.
والله أعلم.
قوله تعالى {وإنا لن ندخلها} يعني البلدة إيلياء، ويقال : أريحاء أي حتى يسلموها لنا من غير قتال.
وقيل : قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان؛ فإنهم قالوا {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} قوله تعالى {قال رجلان من الذين يخافون} قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا.
و{يخافون} أي من الجبارين.
قتادة : يخافون الله تعالى.
وقال الضحاك : هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى؛ فمعنى {يخافون} على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله.
وقيل : يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم.
وقرأ مجاهد وابن جبير {يخافون} بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى.
{أنعم الله عليهما} أي بالإسلام أو باليقين والصلاح.
{ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم؛ فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب.
ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله.
ثم قالا {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} مصدقين به؛ فإنه ينصركم.
ثم قيل على القول الأول : لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا : نصدقكما وندع قول عشرة! ثم قالوا لموسى {إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها} وهذا عناد وحَيْدٌ عن القتال، وإِياسٌ من النصر.
ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا {فاذهب أنت وربك فقاتلا} وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك.
وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة؛ وهو معنى قول الحسن؛ لأنه قال : هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام.
وقيل : أي إن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا؛ فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر؛ لأنهم شكوا في رسالته.
وقيل المعنى : اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك.
وقيل : أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه.
وبالجملة فقد فسقوا بقولهم؛ لقوله تعالى {فلا تأس على القوم الفاسقين} أي لا تحزن عليهم.
{إنا ههنا قاعدون} أي لا نبرح ولا نقاتل.
ويجوز {قاعدين} على الحال؛ لأن الكلام قد تم قبله.
قوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} لأنه كان يطيعه.
وقيل المعنى : إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال {وأخي}.
أي وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه؛ فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء؛ أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا.
وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا.
{فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} يقال : بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة؛ الأول : بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان؛ ولذلك ألقوا في التيه.
الثاني : بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به؛ ومنه قوله تعالى {فيها يفرق كل أمر حكيم}{الدخان : 4] أي يقضي.
وقد فعل لما أماتهم في التيه.
وقيل : إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار؛ والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر : يا رب فافرق بينه وبيني ** أشد ما فرقت بين اثنين وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ {فافرق} بكسر الراء.
قوله تعالى {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} استحباب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة.
وأصل التيه في اللغة الحيرة؛ يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير.
وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر.
والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها؛ وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : تيه أتاويه على السقاط وقال آخر : بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا ** الحزن قد كانت فراخا بيوضها فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل : في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا؛ فكانوا سيارة لا قرار لهم.
واختلف هل كان معهم موسى وهارون؟ فقيل : لا؛ لأن التيه عقوبة، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة؛ وقد قال {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}.
وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم.
ومعنى {محرمة} أي أنهم ممنوعون من دخولها؛ كما يقال : حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار؛ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير؛ كما قال الشاعر : جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ** إني امرؤ صرعي عليك حرام أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي.
وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد.
ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه.
وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة.
{أربعين} ظرف زمان للتيه؛ في قول الحسن وقتادة؛ قالا : ولم يدخلها أحد منهم؛ فالوقف على هذا على {عليهم}.
وقال الربيع بن أنس وغيره : إن {أربعين سنة} ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على {أربعين سنة}؛ فعلى الأول إنما دخلها أولادهم؛ قاله ابن عباس.
ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها.
وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها.
وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه.
قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم؛ وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته؛ فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب، فنزلت النار فأكلت الغنائم.
وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون؛ فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز، عرف باسم الغال؛ وكان اسمه عاجزا.
قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه في ملتنا.
وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (غزا نبي من الأنبياء) الحديث أخرجه مسلم وفيه قال : (فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيل رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول) وذكر نحو ما تقدم.
قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم؛ فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة خبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال.
والله أعلم.
وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : (فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا.
وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها.
وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي، وزاد وهارون؛ وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل؛ فقالوا : ما فعل هارون؟ فقال : مات؛ قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل؛ فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله؛ فانطلق بهم إلى قبره فنادي يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك؟ قال : لا؛ ولكني مت؛ قال : فعد إلى مضجعك؛ وانصرف.
وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه.
وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق.
قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل.
قلت : قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال {أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت} قال : فرد الله إليه عينه وقال {ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة} قال {أي رب ثم مه}، قال {ثم الموت} قال {فالآن}؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم.
ويعني بالطريق طريق بيت المقدس.
ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق.
واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال؛ منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له.
ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة.
ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن.
وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال {يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت} فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضا قوله في الرواية الأخرى {أجب ربك} يدل على تعريفه بنفسه.
والله أعلم.
ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته؛ وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت.
قال ابن العربي : وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب.
ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من (أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير.
ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم.
والله بغيبه أحكم وأعلم.
هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام.
وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غنية عنها.
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة؛ فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال {كشاة تسلخ وهي حية}.
وهذا صحيح معنى؛ قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (إن للموت سكرات) على ما بيناه في كتاب [التذكرة].
وقوله {فلا تأس على القوم الفاسقين} أي لا تحزن.
والأسى الحزن؛ أسي يأسى أي حزن، قال : يقولون لا تهلك أسى وتحمل

تفسير ابن كثير يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء}، أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى اللّه، ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم أوحى اللّه إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد اللّه المنسوب إلى إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم . وقوله: {وجعلكم ملوكاً} قال عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله {وجعلكم ملوكاً} قال: الخادم والمرأة والبيت وعنه قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وقال ابن جرير عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد اللّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال:نعم، قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار، ورواه ابن جرير. وقال السدي قي قوله {وجعلكم ملوكاً} قال: يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، وقد ورد في الحديث: (من أصبح منكم معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ""لفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجة عن عبد اللّه بن محصن: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) وقوله تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال: {وفضلناهم على العالمين} وقال تعالى إخباراً عن موسى: {قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضَّلكم على العالمين} والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند اللّه، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملوكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأوسع مملكة وأدوم عزاً. قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}. وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وقيل: المراد {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، يظللهم به من الغمام، وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم. ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها، حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول اللّه موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا في التيه، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر اللّه تعالى، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة} أي المطهرة. عن ابن عباس قال: هي الطور وما حوله، وكذا قال مجاهد وغير واحد المراد بالأرض المقدسة: بيت المقدس وما حوله، ويقال لها: إيليا، وتفسيرها: بيت اللّه. ويعني بالجبارين: قوماً كانوا فيها من العماليق وهم بنو عملاق بن لاوذ وقوله تعالى: {التي كتب الله لكم} أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم، {ولا ترتدوا على أدباركم} أي تنكلوا عن الجهاد {فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين ذوي خلق هائلة وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم. وقوله تعالى: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} أي فلما نكل بنوا إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول اللّه موسى حرضهم رجلان، للّه عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم: {قال رجلان من الذين يخافون} أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويقال إنهما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا ضبط في سفر العدد: يفنه: بفتح الياء وضم الفاء، وتشديد النون، وقال السهيلي: إنهما يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، والآخر: كوطت بن يوفنا. قال: وأحسبه من سبط يهوذا بن يعقوب. وقال: ويوشع هو الذي حارب الجبارين. واختلف: أكان موسى معه في تلك الغزاة أم لا؟ وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده في مكان يقال له غور عاجر، عرف باسم الرجل الغال. كما ذكره الطبري ؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله، فقالا: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم اللّه على أعدائكم، وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فيهم شيئاً {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون}، وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم، وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال: إنهم لما نكلوا على الجهاد، وعزموا على الإنصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاماً لما هموا به، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيقال: إنهم رجموهما، وجرى أمر عظيم وخطر جليل. وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي اللّه عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم في قتال النفير فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشيروا علي أيها المسلمون) وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول اللّه فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدق ""صبر وصدق بضمتين فيها جمع صبور وصدوق "" في اللقاء لعل اللّه أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك. وممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي اللّه عنه، كما قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: لقد شهدت من المقداد مشهداً، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد اللّه قال، قال المقداد يوم بدر، يا رسول اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى: {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر اللّه ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هرون {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} قال ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر: يا رب فافرق بينه وبيني ** أشد ما فرَّقت بين اثنين وقوله تعالى: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه. وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة: من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً: تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض }الآية. قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى. وهذا قطعة من حديث الفتون. ثم كانت وفاة هرون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام اللّه فيهم يوشع بن نون عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي؛ فحبسها اللّه تعالى حتى فتحها وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون حطة: أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يقولون: حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال: فيكم الغلول، قدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته. وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله: {فإنها محرمة عليهم} هو العامل في اربعين سنة، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن عوج ابن عنق قتله موسى عليه السلام قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه قال: وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال: وما ذالك إلا بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه. وقوله تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين} تسلية لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بيان فضائحم ومخالفتهم للّه ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم؛ مع أن بين أظهرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك نحن أبناء اللّه وأحباؤه، فقبح اللّه وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضى لهم فيه بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد من جميع الوجود.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি