نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المائدة آية 1
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

التفسير الميسر يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، أتِمُّوا عهود الله الموثقة، من الإيمان بشرائع الدين، والانقياد لها، وأَدُّوا العهود لبعضكم على بعض من الأمانات، والبيوع وغيرها، مما لم يخالف كتاب الله، وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام، وهي الإبلُ والبقر والغنم، إلا ما بيَّنه لكم من تحريم الميتة والدم وغير ذلك، ومن تحريم الصيد وأنتم محرمون. إن الله يحكم ما يشاء وَفْق حكمته وعدله.

تفسير الجلالين
سورة المائدة [مدنية وآياتها 120 أو 122 أو 123 آية نزلت بعد الفتح] 1 - (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) العهود المؤكدة التي بينكم وبين الله والناس (أحلت لكم بهيمة الأنعام) الإبل والبقر والغنم أكلاً بعد الذبح (إلا ما يتلى عليكم) تحريمه في {حرمت عليكم الميتة} الآية ، فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم لما عرض من الموت ونحوه (غير محلي الصيد وأنتم حرم) أي مُحرِمون ونصب غير على الحال من ضمير لكم (إن الله يحكم ما يريد) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه

تفسير القرطبي
فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا} قال علقمة : كل ما في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني و{يا أيها الناس} [النساء : 1] فهو مكي؛ وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم.
وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأول : الأمر بالوفاء بالعقود؛ الثاني : تحليل بهيمة الأنعام؛ الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك؛ الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يصاد؛ الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال : نعم ! أعمل مثل بعضه؛ فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
الثانية: قوله تعالى {أوفوا} يقال : وفى وأوفى لغتان : قال الله تعالى {ومن أوفى بعهده من الله}[التوبة : 111] ، وقال تعالى {وإبراهيم الذي وفى} [النجم : 37] وقال الشاعر : أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ** كما وفى بقلاص النجم حاديها فجمع بين اللغتين {بالعقود} العقود الربوط، واحدها عقد؛ يقال : عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام؛ قال الحطيئة : قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود؛ قال الحسن : يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه؛ من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة؛ وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام.
وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الأمة؛ قال ابن العربي.
ثم قيل : إن الآية نزلت في أهل الكتاب؛ لقوله تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران : 187].
قال ابن جريج : هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت.
وقيل : هي عامة وهو الصحيح؛ فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب؛ لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم مأمورون بذلك في قوله {أوفوا بالعقود} وغير موضع.
قال ابن عباس {أوفوا بالعقود} معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء؛ وكذلك قال مجاهد وغيره.
وقال ابن شهاب : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : (هذا بيان للناس من الله ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فكتب الآيات فيها إلى قوله {إن الله سريع الحساب} [المائدة : 4] ).
وقال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض.
وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب؛ قال صلى الله عليه وسلم : (المؤمنون عند شروطهم) وقال : (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله؛ فإن ظهر فيها ما يخالف رد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ذكر ابن إسحاق قال : اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو ادعي به في الإسلام لأجبت).
وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام : (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم؛ فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله.
قال ابن إسحاق : تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان الوليد؛ فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين : أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول.
قال عبدالله بن الزبير : وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا؛ وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك؛ وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.
الثالثة: قوله تعالى {أحلت لكم بهيمة الأنعام} الخطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله؛ وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها؛ فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلة.
واختلف في معنى {بهيمة الأنعام} والبهيمة اسم لكل ذي أربع؛ سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها؛ ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
و {الأنعام} : الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها؛ قال الله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع} [النحل : 5] إلى قوله {وتحمل أثقالكم} [النحل : 7] ، وقال تعالى {ومن الأنعام حمولة وفرشا} [الأنعام : 142] يعني كبارا وصغارا؛ ثم بينها فقال {ثمانية أزواج} [الأنعام : 143] إلى قوله {أم كنتم شهداء} [البقرة : 133] وقال تعالى {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها} [النحل : 80] يعني الغنم {وأوبارها} يعني الإبل {وأشعارها} يعني المعز؛ فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس؛ الإبل والبقر والغنم؛ وهو قول ابن عباس والحسن.
قال الهروي : وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة.
وقال الطبري : وقال قوم {بهيمة الأنعام} وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك.
وذكره غير الطبري والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال : أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه.
قال ابن عطية : وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام؛ فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
قلت : فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع} [النحل : 5] ثم عطف عليها قوله{والخيل والبغال والحمير} [النحل : 8] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها؛ والله أعلم.
وقيل {بهيمة الأنعام} ما لم يكن صيدا؛ لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول.
وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال {بهيمة الأنعام} الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات؛ فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد؛ لأن الله تعالى قال {إلا ما يتلى عليكم} وليس في الأجنة ما يستثنى؛ قال مالك : ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه؛ فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل : هو ذكي.
وقيل : ليس بذكي؛ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى {إلا ما يتلى عليكم} أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى{حرمت عليكم الميتة} [المائدة : 3] وقوله عليه الصلاة والسلام : (وكل ذي ناب من السباع حرام).
فإن قيل : الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة؛ قلنا : كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله؛ والدليل عليه أمران : أحدهما : حديث العسيف (لأقضين بينكما بكتاب الله) والرجم ليس منصوصا في كتاب الله.
الثاني : حديث ابن مسعود : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؛ الحديث.
وسيأتي في سورة الحشر.
ويحتمل {إلا ما يتلى عليكم} الآن أو {ما يتلى عليكم} فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.
الخامسة: قوله تعالى {غير محلي الصيد} أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين.
واختلف النحاة في {إلا ما يتلى} هل هو استثناء أو لا ؟ فقال البصريون : هو استثناء من {بهيمة الأنعام} و {غير محلي الصيد} استثناء آخر أيضا منه؛ فالاستثناءان جميعا من قوله {بهيمة الأنعام} وهي المستثنى منها؛ التقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ بخلاف قوله {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين.
إلا آل لوط} [الحجر : 58 - 59] على ما يأتي.
وقيل : هو مستثنى مما يليه من الاستثناء؛ فيصير بمنزلة قوله عز وجل {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى {إلا ما يتلى عليكم} مستثنى من الإباحة؛ وهذا وجه ساقط؛ فإذاً معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد.
ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
وأجاز الفراء أن يكون {إلا ما يتلى عليكم} في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا؛ ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد.
والنصب عنده بأن {غير محلي الصيد} نصب على الحال مما في {أوفوا}؛ قال الأخفش : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد.
وقال غيره : حال من الكاف والميم في {لكم} والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد.
ثم قيل : يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام؛ كما تقول : أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة.
فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى : غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.
السادسة: قوله تعالى {وأنتم حرم} يعني الإحرام بالحج والعمرة؛ يقال : رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج؛ ومنه قول الشاعر : فقلت لها فيئي إليك فإنني ** حرام وإني بعد ذاك لبيب أي ملبّ، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما.
ويقال : أحرم دخل في الحرم؛ فيحرم صيد الحرم أيضا.
وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب {حرم} بسكون الراء؛ وهي لغة تميمية يقولون في رسل : رسل وفي كتب كتب ونحوه.
السابعة: قوله تعالى {إن الله يحكم ما يريد} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب؛ أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل {يحكم ما يريد} {لا معقب لحكمه} [الرعد : 41] يشرع ما يشاء كما يشاء.

تفسير ابن كثير قال ابن أبي حاتم عن معن وعوف، أو أحدهما: أن رجلا أتى عبد اللّه بن مسعود، فقال: اعهد إليّ، فقال: إذا سمعت اللّه يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه. وعن خيثمة قال: كل شيء في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} فهو في التوراة يا أيها المساكين. وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابا لعمرو بن حزام، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنّة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابا وعهدا، وأمره فيه بأمره، فكتب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} عهد من محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمرو بن حزام حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلهن فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ""رواه ابن أبي حاتم وأخرج مثله ابن جرير""وقوله تعالى: {أوفوا بالعقود}، قال ابن عباس يعني بالعقود: العهود؛ قال: والعهود: ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره؛ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العهود: يعني ما أحل اللّه وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: {والذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل}، إلى قوله: {سوء الدار} وقال الضحاك: {أوفوا العقود} قال: ما أحل اللّه وحرم وما أخذ اللّه من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ اللّه عليهم من الفرائض من الحلال والحرام، وقال زيد بن أسلم: {أوفوا بالعقود} قال: هي ستة، عهد اللّه، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد اليمين. وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في البيع بهذه الآية {أوفوا بالعقود}، قال: فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وفي لفظ آخر للبخاري؛(إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا)، وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. وقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} هي الإبل والبقر والغنم، قاله قتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن. عن أبي سعيد قال: قلنا يا رسول اللّه ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة، في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: (كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه)، وقال أبو داود عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) وقوله: {إلا ما يتلى عليكم} قال ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة وما لم يذكر اسم اللّه عليه، والظاهر - واللّه أعلم - أن المراد بذلك قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع}، فإن هذه وإن كانت من الأنعام، إلا أنها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال: {إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} يعني منها، فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه، ولهذا قال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال، والمراد بالأنعام ما تعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثني من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام: وقيل المراد، أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام، لقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن اللّه غفور رحيم}، أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا، أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال، فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن اللّه قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه، ولهذا قال اللّه تعالى: {إن اللّه يحكم ما يريد}. ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه} قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج، وقال مجاهد: الصفا والمروة، والهدي والبدن من شعائر اللّه، وقيل: شعائر اللّه محارمه، أي لا تحلوا محارم اللّه التي حرمها اللّه تعالى، ولهذا قال تعالى: {ولا الشهر الحرام} يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى اللّه عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير}، وقال تعالى: {إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا} الآية، وفي صحيح البخاري: عن أبي بكرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {ولا الشهر الحرام} يعني لا تستحلوا القتال فيه، واختاره ابن جرير أيضا، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن اللّه قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة. وقوله تعالى: {ولا الهدي ولا القلائد} يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر اللّه، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لما حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعا، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلده، وأهلَّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان؛ كما قال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب} وقال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن ، وقال مقاتل بن حيان قوله: {ولا القلائد} فلا تستحلوها، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به. وقوله تعالى: {ولا آمين البيت الحرام يتبغون فضلا من ربهم ورضوانا } أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت اللّه الحرام الذي من دخله كان آمنا، وكذا من قصده طالبا فضل اللّه، وراغبا في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه، قال مجاهد وعطاء في قوله: {يبتغون فضلا من ربهم} يعني بذلك التجارة وهذا كما تقدم في قوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} وقوله: {ورضوانا } قال ابن عباس: يترضون اللّه بحجهم، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في الحطيم بن هند البكري ، كان قد أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت، فأنزل اللّه عز وجلَّ: {ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } ""أخرج ابن جرير: أن الحطيم قدم المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فبايعه واسلم، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يريد مكة، فتهيأ له نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره، فأنزل اللّه هذه الآية"" وقد حكى ابن جرير بالإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس، وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم، واللّه أعلم، فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، ولهذا بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام تسع لما أمَّر الصديقُ على الحجيج علياً، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال ابن عباس قوله {ولا آمين البيت الحرام}: يعني من توجه قِبَل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى اللّه المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر، ثم أنزل اللّه بعدها: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} الآية، وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه} وقال: {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن بالله واليوم الآخر} فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال قتادة في قوله {ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد ونقل: أن الآية نزلت في الحطيم البكري، وشريح بن ضبيعة القيسي وكانا معتمرين، والحطيم: هو الذي قال فيه الرسول (دخل بوجه كافر، وخرج بقنا غادر) وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسخها قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}. وقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} أي إذا فرغتم من أحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد، وهذا أمر بعد الحظر، وقوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم اللّه فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى اللّه فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه، والعدل به قامت السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل اللّه هذه الآية. والشنآن: هو البغض، قاله ابن عباس وغيره، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا بالتحريك، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط بالتحريك في شنآن فيقول: شنان، ولم أعلم أحدا قرأ بها، ومنه قول الشاعر: وما العيش إلا ما تحب وتشتهي * وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا وقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، قال ابن جرير الإثم: ترك ما أمر اللّه بفعله، والعدوان مجاوزة ما حد اللّه في دينكم ومجاوزة ما فرض اللّه عليكم في أنفسكم وفي غيركم. وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قيل: يارسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما! قال: (تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره)،""رواه البخاري وأحمد عن أنَس بن مالك""، وقال أحمد عن يحيى بن وثاب - رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم أعظم أجرا ) وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(الدال على الخير كفاعله)، وفي الصحيح:(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি