نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة المزمل آية 20
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

التفسير الميسر إن ربك -أيها النبي- يعلم أنك تقوم للتهجد من الليل أقل من ثلثيه حينًا، وتقوم نصفه حينًا، وتقوم ثلثه حينًا آخر، ويقوم معك طائفة من أصحابك. والله وحده هو الذي يقدِّر الليل والنهار، ويعلم مقاديرهما، وما يمضي ويبقى منهما، علم الله أنه لا يمكنكم قيام الليل كله، فخفَّف عليكم، فاقرؤوا في الصلاة بالليل ما تيسر لكم قراءته من القرآن، علم الله أنه سيوجد فيكم مَن يُعجزه المرض عن قيام الليل، ويوجد قوم آخرون يتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون من رزق الله الحلال، وقوم آخرون يجاهدون في سبيل الله؛ لإعلاء كلمته ونشر دينه، فاقرؤوا في صلاتكم ما تيسَّر لكم من القرآن، وواظبوا على فرائض الصلاة، وأعطوا الزكاة الواجبة عليكم، وتصدَّقوا في وجوه البر والإحسان مِن أموالكم؛ ابتغاء وجه الله، وما تفعلوا مِن وجوه البر والخير وعمل الطاعات، تلقَوا أجره وثوابه عند الله يوم القيامة خيرًا مما قدَّمتم في الدنيا، وأعظم منه ثوابًا، واطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم، إن الله غفور لكم رحيم بكم.

تفسير الجلالين
20 - (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) أقل (من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) بالجر عطف على ثلثي وبالنصب عطف على أدنى وقيامه كذلك نحو ما أمر به أول السورة (وطائفة من الذين معك) عطف على ضمير تقوم وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به ومنهم من كان لا يدري كم صلى من الليل وكم بقي منه فكان يقوم الليل كله احتياطا فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة أو أكثر فخفف عنهم قال تعالى (والله يقدر) يحصي (الليل والنهار علم أن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انه (لن تحصوه) أي الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه وذلك يشق عليكم (فتاب عليكم) رجع بكم إلى التخفيف (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن) مخففة من الثقيلة أي أنه (سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض) يسافرون (يبتغون من فضل الله) يطلبون من رزقه بالتجارة وغيرها (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) وكل من الفرق الثلاثة يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل فخفف عنهم بقيام ما تيسر منه ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس (فاقرؤوا ما تيسر منه) كما تقدم (وأقيموا الصلاة) المفروضة (وآتوا الزكاة وأقرضوا الله) بأن تنفقوا ما سوى المفروض من المال في سبيل الخير (قرضا حسنا) عن طيب قلب (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا) مما خلفتم وهو فضل وما بعده وإن لم يكن معرفة يشبهها لامتناعه من التعريف (وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) للمؤمنين

تفسير القرطبي
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم} هذه الآية تفسير لقوله تعالى {قم الليل إلا قليلا.
نصفه أو انقص منه قليلا.
أو زد عليه}[المزمل : 4] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم.
{تقوم} معناه تصلي و{أدنى} أي أقل.
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثلثي} بإسكان اللام.
{ونصفه وثلثه} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثلثي}؛ المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى {علم أن لن تحصوه} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه.
وقرأ ابن كثير والكوفيون {ونصفه وثلثه} بالنصب عطفا على {أدنى} التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه.
قال الفراء : وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة.
القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه.
ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث.
ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم.
وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع.
وهذا القول تحكم.
الثانية: قوله تعالى {والله يقدر الليل والنهار} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.
{علم أن لن تحصوه} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به.
وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل.
والأول أصح؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط.
قال مقاتل وغيره : لما نزلت {قم الليل إلا قليلا.
نصفه أو انقص منه قليلا.
أو زد عليه}[المزمل : 4] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم؛ فقال تعالى {علم أن لن تحصوه} و{أن} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
الثالثة: قوله تعالى {فتاب عليكم} أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به.
وقيل : أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم.
وأصل التوبة الرجوع كما تقدم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر.
وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري.
وقيل : معنى {والله يقدر الليل والنهار} يخلقهما مقدرين؛ كقوله تعالى {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}[الفرقان : 2].
ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف، التكليف.
الرابعة: قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فيه قولان : أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم.
قال السدي : مائة آية.
الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين.
وقال سعيد : خمسون آية.
قلت : قول كعب أصح؛ لقوله عليه السلام : (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) ""رجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو"" وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله.
القول الثاني {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا؛ كقوله تعالى {وقرآن الفجر} أي صلاة الفجر.
ابن العربي : وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.
قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة: قال بعض العلماء : قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه.
ثم احتمل قول الله عز وجل {فاقرؤوا ما تيسر منه} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرض غيره.
والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}[الإسراء : 79] فاحتمل قوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}[الإسراء : 79] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه.
قال الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة: قال القشيري أبو نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى {فما استيسر من الهدي}[البقرة : 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق؛ وهو مذهب الحسن.
وقال قوم : نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا؛ وهو مذهب الشافعي.
ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته.
وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم.
وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه.
وقوله {نافلة لك}[الإسراء : 79] محمول على حقيقة النفل.
ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس}[الإسراء : 78]، وقوله {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}[الروم : 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}[الإسراء : 79] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {يا أيها المزمل.
قم الليل}[المزمل : 1] كانت عامة له ولغيره.
وقد قيل : إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}[الإسراء : 79].
وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم} وجوب صلاة الليل.
السابعة: قوله تعالى {علم أن سيكون منكم مرضى} الآية؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
و{أن} في {أن سيكون} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.
الثامنة: سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله.
وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء.
وقرأ {وآخرون يضربون في الأرض} الآية.
وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض.
وقال طاوس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي.
ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له : يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
التاسعة: قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي صلوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم.
قال ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية؛ قال البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد.
فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال : (أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة).
وحديث عبدالله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال : (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه) فقال ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل.
وفي الصحيح واللفظ للبخاري : قال عبدالله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار.
قال : ولقينا ملك آخر، فقال لي : لم ترع.
فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : (نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع.
والله أعلم.
العاشرة: إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}، {فاقرؤوا ما تيسر منه} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت.
وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقل سورة.
ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي.
ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة الفاتحة أول الكتاب والحمد لله.
وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماوردي : فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب.
وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه.
الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة.
وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال : أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عباده؛ قاله الضحاك.
الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جويبر.
الثالث مائتا آية؛ قال السدي.
الرابع مائة آية؛ قال ابن عباس.
الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.
الحادية عشرة: قوله تعالى {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها.
{وآتوا الزكاة} الواجبة في أموالكم؛ قال عكرمة وقتادة.
وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك.
وقيل : صدقة التطوع.
وقيل : كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس : طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشرة: قوله تعالى {وأقرضوا الله قرضا حسنا} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب.
وقد مضى في سورة الحديد بيانه.
وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل.
وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة: قوله تعالى {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه.
فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر : لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا} أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير.
{وأعظم أجرا} قال أبو هريرة : الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا.
ونصب {خيرا وأعظم} على المفعول الثاني {لتجدوه} و{هو} : فضل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب.
و{أجرا} تمييز.
{واستغفروا الله} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إن الله غفور} لما كان قبل التوبة {رحيم} لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير.
ختمت السورة.

تفسير ابن كثير يقول تعالى: {إنَّ هذِهِ} أي السورة {تذكرة} أي يتذكر بها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: {فمن شاء اتخذ لى ربه سبيلاً} أي ممن شاء اللّه تعالى هدايته، ثم قال تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} أي تارة هكذا وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل، لأنه يشق عليكم، ولهذا قال: {واللّه يقدر الليل والنهار} أي تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا، {علم أن لن تحصوه} أي الفرض الذي أوجبه عليكم {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} أي من غير تحديد بوقت، أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال: {ولا تجهر بصلاتك} أي بقراءتك {ولا تخافت بها}، وقد استدل أبو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية وهي قوله: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة، واعتضد بحديث المسيء صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ""جزء من حديث مشهور رواه الشيخان""، وقد أجاب الجمهور بحديث عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ""أخرجه البخاري ومسلم"". وعن أبي هريرة مرفوعاً: (لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأُمّ القرآن) ""أخرجه ابن خزيمة في صحيحه"". وقوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه} أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار، من مرضى لا يستطيعون القيام ومسافرين يبتغون من فضل اللّه في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بالغزو في سبيل اللّه، ولهذا قال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} أي قوموا بما تيسر عليكم منه، روى ابن جرير، عن أبي رجاء قال، قلت للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسد القرآن لعن اللّه ذاك، قال تعالى للعبد الصالح: {وإنه لذو علم لما علمناه}، {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}، قلت: يا أبا سعيد قال اللّه تعالى {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، قال: نعم، ولو خمس آيات، وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري، أنه كان يرى حقا واجباً على حملة القرآن، أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل، ولهذا جاء في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح؟ فقال: (ذاك رجُل بال الشيطان في أُذنه) فقيل معناه نام عن الصلاة المكتوبة، وقيل عن قيام الليل. وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة، وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة واللّه أعلم، وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إن هذه الآية نسخت الذي كان اللّه قد أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لذلك الرجل: (خمس صلوات في اليوم والليلة)، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوّع)، وقوله تعالى: {وأقرضوا اللّه قرضاً حسناً} يعني من الصدقات، فإن اللّه يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}، وقوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيراً وأعظم أجراً} أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، عن عبد اللّه بن مسعود قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟) قالوا: يا رسول اللّه، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: (اعلموا ما تقولون)، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول اللّه، قال: (إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخر) ""أخرجه الحافظ الموصلي، ورواه البخاري والنسائي بنحوه""، ثم قال تعالى: {واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم} أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها، فإنه غفور رحيم لمن استغفره.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি