نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة النساء آية 47
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا

التفسير الميسر يا أهل الكتاب، صدِّقوا واعملوا بما نزَّلنا من القرآن، مصدقًا لما معكم من الكتب من قبل أن نأخذكم بسوء صنيعكم، فنمحو الوجوه ونحولها قِبَلَ الظهور، أو نلعن هؤلاء المفسدين بمسخهم قردة وخنازير، كما لعنَّا اليهود مِن أصحاب السبت، الذين نُهوا عن الصيد فيه فلم ينتهوا، فغضب الله عليهم، وطردهم من رحمته، وكان أمر الله نافذًا في كل حال.

تفسير الجلالين
47 - (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) من القرآن (مصدقا لما معكم) من التوراة (من قبل أن نطمس وجوها) نمحو ما فيها من العين والأنف والحاجب (فنردها على أدبارها) فنجعلها كالأقفاء لوحا واحدا (أو نلعنهم) نمسخهم قردة (كما لعنا) مسحنا (أصحاب السبت) منهم (وكان أمر الله) قضاؤه (مفعولا) ولما نزلت أسلم عبد الله بن سلام فقيل كان وعيدا بشرط فلما أسلم بعضهم رفع وقيل يكون طمس ومسخ قبل قيام الساعة

تفسير القرطبي
قوله تعالى {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله تعالى {فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه }الآية.
نزلت في يهود المدينة وما والاها.
قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب }إلى قوله {قليلا}.
ومعنى {يشترون }يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [البقرة : 16] قاله القتبي وغيره.
{ويريدون أن تضلوا السبيل} عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق.
وقرأ الحسن{تضلوا }بفتح الضاد أي عن السبيل.
قوله تعالى {والله أعلم بأعدائكم} يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم.
ويجوز أن يكون {أعلم } بمعنى عليم؛ كقوله تعالى {وهو أهون عليه } [الروم : 27] أي هين.
{وكفى بالله وليا} الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم.
و{وليا }و {نصيرا} نصب على البيان، وإن شئت على الحال.
قوله تعالى{من الذين هادوا} قال الزجاج : إن جعلت {من }متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول {نصيرا}، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على {نصيرا }والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف.
وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون : لو قلت ما في قومها لم تيثم ** يفضلها في حسب ومبسم قالوا : المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف.
وقال الفراء : المحذوف {من} المعنى : من الذين هادوا من يحرفون.
وهذا كقوله تعالى{وما منا إلا له مقام معلوم} [الصافات : 164] أي من له.
وقال ذو الرمة : فظلوا ومنهم دمعه سابق له ** وآخر يذري عبرة العين بالهمل يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول.
وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة.
{يحرفون} يتأولونه على غير تأويله.
وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين.
وقيل {عن مواضعه} يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
{ويقولون سمعنا وعصينا} أي سمعنا قولك وعصينا أمرك.
{واسمع غير مسمع} قال ابن عباس : كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم : اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى.
وقال الحسن ومجاهد.
معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول.
قال النحاس : ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك.
وتقدم القول في {راعنا}.
ومعنى {ليا بألسنتهم} أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم.
وأصل اللي الفتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله.
وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء.
{وطعنا} معطوف عليه أي يطعنون في الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول.
ومعنى {أقوم} أصوب لهم في الرأي.
{فلا يؤمنون إلا قليلا }أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان.
وقيل : معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.
قوله تعالى {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا} قال ابن إسحاق : كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : (يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق ) قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد.
وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها } إلى آخر الآية.
قوله تعالى {مصدقا لما معكم} نصب على الحال.
{من قبل أن نطمس وجوها} الطمس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى {فإذا النجوم طمست } [المرسلات : 8].
ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان.
ويقال في الكلام : طسم يَطْسِم ويَطْسُم بمعنى طمس؛ يقال : طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى{ربنا اطمس على أموالهم} [يونس : 88] أي أهلكها؛ عن ابن عرفة.
ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد.
وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } [يس : 66] يقول أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين.
أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان.
روي عن أبي بن كعب أنه قال {من قبل أن نطمس }من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده.
يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.
وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء.
أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة.
وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى.
وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا } فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي.
وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي.
فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين.
وقال المبرد : الوعيد باق منتظر.
وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
قوله تعالى {أو نلعنهم} أي أصحاب الوجوه {كما لعنا أصحاب السبت} أي نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة.
وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة {وكان أمر الله مفعولا } أي كائنا موجودا.
ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده.
وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.
قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا{إن الله يغفر الذنوب جميعا } [الزمر : 53] فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة.
{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه.
فقال محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى.
وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقول{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [النساء : 31] فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر.
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر [الفرقان].
قال زيد بن ثابت : نزلت سورة [النساء ]بعد [الفرقان] بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل.
وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي [الفرقان ] إن شاء الله تعالى.
وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال : هذا حديث حسن غريب.
قوله تعالى{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود.
واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه}، وقولهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب.
وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم.
وهذا يبعد من مقصد الآية.
وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا.
وقال عبدالله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض.
وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب.
الثانية: هذه الآية وقوله تعالى {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم : 32] يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له.
وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ) فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : (سموها زينب ).
فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا.
الثالثة: فأما تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ويحك قطعت عنق صاحبك ).
وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل ) حين وصفوه بما ليس فيه.
وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : (احثوا التراب في وجوه المداحين ) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه.
وهذا راجع إلى النيات {والله يعلم المفسد من المصلح}.
وقد مدح في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك.
كقول أبي طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال : (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبدالله ورسوله ) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا.
وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى{ولا يظلمون فتيلا} الضمير في {يظلمون} عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل.
وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية.
والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد.
وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة.
وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعيل بمعنى مفعول.
وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا.
ومثل هذا في التحقير قوله تعالى {ولا يظلمون نقيرا} [النساء : 124] وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي.
قال الشاعر يذم بعض الملوك : تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ** ثم لا ترزأ العدو فتيلا ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال {انظر كيف يفترون على الله الكذب} في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه.
وقيل : تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج.
وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد.
والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه.
وفريت الشيء قطعته.
{وكفى به إثما مبينا} نصب على البيان.
والمعنى تعظيم الذنب وذمه.
العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.
قوله تعالى{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} يعني اليهود {يؤمنون بالجبت والطاغوت} اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية : الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن.
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : الجبت السحر والطاغوت الشيطان.
ابن مسعود : الجبت والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب.
عكرمة : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [النساء : 60].
قتادة : الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن.
وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله.
قال : وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس.
وقيل : هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن.
وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب.
وقيل : الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه.
وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى{أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل : 36] وقال تعالى{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [الزمر : 17].
وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ).
الطرق الزجر، والعيافة الخط ؛ خرجه أبو داود في سننه.
وقيل : الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان.
والله أعلم.
قوله تعالى {ويقولون للذين كفروا} أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد.
وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق.
نحن أم محمد ؟ فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
قوله تعالى {أم لهم نصيب من الملك} أي ألهم ؟ والميم صلة.
{نصيب} حظ {من الملك} وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم.
وقيل : المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني.
وقيل : هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟.
{فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي يمنعون الحقوق.
خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم.
والنقير : النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وعن ابن عباس أيضا : النقير : ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض.
وقال أبو العالية : سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا النقير.
والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ.
وفلان كريم النقير أي الأصل.
و {إذا } هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز.
قال سيبويه{إذا }في عوامل الأفعال بمنزلة {أظن }في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك.
قال عبدالله بن عنتمة الضبي : اردد حمارك لا يرتع بروضتنا ** إذن يرد وقيد العير مكروب نصب لأن الذي قبل {إذن } تام فوقعت ابتداء كلام.
فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك.
زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا.
وفي التنزيل {وإذا لا يلبثون } [الإسراء : 76] وفي مصحف أبي {وإذا لا يلبثوا}.
وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه {إذا} لمضارعتها {أن}، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا.
وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة.
قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.

تفسير ابن كثير يأمر اللّه تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب العظيم، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله: {ومن قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها} قال بعضهم: معناه من قبل أن نطمس وجوهاً، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار، وقال ابن عباس: طمسها أن تعمى {فنردها على أدبارها} يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه اللّه لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً} الآية: أي هذا مثل سوء ضربه اللّه لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى، قال مجاهد: {من قبل أن نطمس وجوهاً} يقول عن صراط الحق {فنردها على أدبارها} أي في الضلال، قال السدي: {فنردها على أدبارها} فنمنعها عن الحق، قال: نرجعها كفاراً ونردهم قردة. وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية. قال ابن جرير عن عيسى بن المغيرة، قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال: أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة فخرج إليه عمر، فقال: يا كعب أسلم فقال: ألستم تقولون في كتابكم: {مثل الذين حملوا التوراة - إلى أسفاراً}، وأنا قد حملت التوراة، قال: فتركه عمر، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلاً من أهلها حزيناً، وهو يقول: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها} الآية. قال كعب: يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين. وقوله تعالى: {أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} يعني: اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وقوله: {وكان أمر اللّه مفعولاً} أي: إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع، ثم أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب، لمن يشاء: أي من عباده، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر. الحديث الأول: عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره اللّه، وظلم يغفره اللّه، وظلم لا يترك اللّه منه شيئاً. فأما الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك، وقال: {إن الشرك لظلم عظيم}، وأما الظلم الذي يغفره اللّه فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض) "رواه الشيخان" الحديث الثاني : عن أبي إدريس قال، سمعت معاوية يقول، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) الحديث الثالث: عن أبي ذر أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من عبد قال لا إله إلا اللّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق - ثلاثا، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر)، قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر "رواه الشيخان" وعن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أُحُد، فقال: (يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول اللّه، قال: ما أحب أن لي أُحُداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده، يعني لدين، إلا أن أقول به في عباد اللّه هكذا وهكذا فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قال ثم مشينا فقال: يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا ، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا فقال: يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك، قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: فسمعت لغطاً، فقلت: لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرض له، قال: فهممت أن أتبعه، قال: فذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك، فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: ذاك جبريل أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق) "رواه أحمد والشيخان" الحديث الرابع: عن جابر، قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه ما الموجبتان؟ قال: (من مات لا يشرك باللّه شيئاً وجبت له الجنة ومن مات يشرك باللّه شيئاً وجبت له النار) الحديث الخامس: قال الإمام أحمد، عن ضمضم بن جوش اليمامي قال، قال لي أبو هريرة: يا يمامي! لا تقولن لرجل لا يغفر اللّه لك، أو لا يدخلك الجنة أبداً، فقلت: يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب، قال: لا تقلها فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (كان في بني إسرائيل رجلان أحدهما مجتهد في العبادة، وكان الآخر مسرفاً على نفسه، وكانا متآخيين، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب فيقول: يا هذا أقصر، فيقول: خلِّني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟ إلى أن رآه يوماً على ذنب استعظمه، فقال له: ويحك أقصر، قال: خلِّني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال: واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة أبداً، قال: فبعث اللّه إليهما ملكاً فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت عالماً ؟! أكنت على ما في يدي قادراً؟ اذهبوا به إلى النار. قال: والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته)

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি