نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة النساء آية 23
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

التفسير الميسر حرَّم الله عليكم نكاح أمهاتكم، ويدخل في ذلك الجدَّات مِن جهة الأب أو الأم، وبناتكم: ويشمل بنات الأولاد وإن نزلن، وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم، وعماتكم: أخوات آبائكم وأجدادكم، وخالاتكم: أخوات أمهاتكم وجداتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت: ويدخل في ذلك أولادهن، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة -وقد حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب- وأمهات نسائكم، سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهن، وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربَّيْنَ غالبًا في بيوتكم وتحت رعايتكم، وهن مُحرَّمَات فإن لم يكنَّ في حجوركم، ولكن بشرط الدخول بأمهاتهن، فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهن وطلقتموهن أو متْنَ قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهن، كما حرَّم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم، ومن أُلحق بهم مِن أبنائكم من الرضاع، وهذا التحريم يكون بالعقد عليها، دخل الابن بها أم لم يدخل، وحرَّم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنسب أو رضاع إلا ما قد سلف ومضى منكم في الجاهلية. ولا يجوز كذلك الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كما جاء في السنة. إن الله كان غفورًا للمذنبين إذا تابوا، رحيمًا بهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون.

تفسير الجلالين
23 - (حُرِّمَت عليكم أمهاتكم) أن تنكحوهن وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم (وبناتكم) وشملت الأولاد وإن سفلن (وأخواتكم) من جهة الأب أو الأم (وعماتكم) أي أخوات آبائكم وأجدادكم (وخالاتكم) أي أخوات أمهاتكم وجداتكم (وبنات الأخ وبنات الأخت) ويدخل فيهن أولادهم (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) قبل استكمال الحولين خمس رضعات كما بينه الحديث (وأخواتكم من الرضاعة) ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهن موطوأته والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت منها لحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". رواه البخاري ومسلم. (وأمهات نسائكم وربائبكم) جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره (اللاتي في حجوركم) تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) أي جامعتموهن (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن (وحلائل) أزواج (أبنائكم الذين من أصلابكم) بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم (وأن تجمعوا بين الأختين) من نسب أو رضاع بالنكاح ويلحق بهما بالسنة بينها وبين عمتها أو خالتها ويجوز نكاح كل واحدة على الانفراد وملكهما معاً ويطأ واحدة (إلا) لكن (ما قد سلف) في الجاهلية من نكاحهم بعض ما ذكر فلا جناح عليكم فيه (إن الله كان غفوراً) لما سلف منكم قبل النهي (رحيما) بكم في ذلك

تفسير القرطبي
فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الأب.
فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع.
وثبتت الرواية عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية.
وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال : السابعة قوله تعالى: {والمحصنات}.
فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت.
والسبع المحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، والسابعة {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم}.
قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم؛ وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار.
وقالت طائفة من السلف : الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى.
قالوا : ومعنى قوله: {وأمهات نسائكم} أي اللاتي دخلتم بهن.
{وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن}.
وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا؛ رواه خلاس عن علي بن أبي طالب.
وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد.
قال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين؛ وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا : لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها.
وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح؛ والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي.
وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة.
قال ابن جريج : قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال : لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل.
فقلت له : أكان ابن عباس يقرأ: {وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن} ؟ قال : لا لا.
وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وأمهات نسائكم} قال : هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة؛ وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه: "فقال زيد لا، الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب".
قال ابن المنذر : وهذا هو الصحيح؛ لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى: {وأمهات نسائكم}.
ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا؛ فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون "الظريفات" نعتا لنسائك ونساء زيد؛ فكذلك الآية لا يجوز أن يكون "اللاتي" من نعتهما جميعا؛ لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني.
وأنشد الخليل وسيبويه : إن بها أكتل أو رزاما ** خويربين ينقفان الهاما خويربين يعني لصين، بمعنى أعني.
وينقفان : يكسران؛ نقفت رأسه كسرته.
وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت) أخرجه في الصحيحين الثانية: وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون؛ لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به.
الثالثة: قوله تعالى: {أمهاتكم} تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته؛ وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات.
والأمهات جمع أمهة؛ يقال : أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما.
وقد تقدم في الفاتحة بيانه.
وقيل : إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع.
قال الشاعر : أمهتي خندف والدوس أبي وقيل : أصل الأم أمة، وأنشدوا : تقبلتها عن أمة لك طالما ** تثوب إليها في النوائب أجمعا ويكون جمعها أمات.
قال الراعي : كانت نجائب منذر ومحرق ** أماتهن وطرقهن فحيلا فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون.
والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن.
والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت، والأصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت.
قال الفراء : كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة، والجمع أخوات.
والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما.
وإن شئت قلت : كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك.
وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أب أمك.
والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما.
وإن شئت قلت : كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك.
وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة؛ وكذلك بنت الأخت.
فهذه السبع المحرمات من النسب.
وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة.
الرابعة: قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وهي في التحريم مثل من ذكرنا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
وقرأ عبد الله {وأمهاتكم اللائي} بغير تاء؛ كقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض} الطلاق : 4] قال الشاعر : من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ** ولكن ليقتلن البريء المغفلا {أرضعنكم} فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته، وأمه لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته.
الخامسة: قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي : سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟ قال : نعم.
قال أبو نعيم : وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها.
ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما؛ قال : يفرق بينهما، وما أخذت من شيء له فهو لها، وما بقي عليه فلا شيء عليه.
ثم قال مالك : إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك؛ فقالوا : يا رسول الله، إنها امرأة ضعيفة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أليس يقال إن فلانا تزوج أخته) ؟ السادسة: التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين؛ كما تقدم في "البقرة".
ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة.
واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين : أحدهما خمس رضعات؛ لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن.
موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس.
ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس؛ لأنه لا ينسخ بهما.
وفي حديث سهلة (أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن).
الشرط الثاني : أن يكون في الحولين، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم؛ لقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} البقرة : 233].
وليس بعد التمام والكمال شيء.
واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر.
ومالك الشهر ونحوه.
وقال زفر : ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين.
وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع.
وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم؛ وهو قول عائشة رضي الله عنها؛ وروي عن أبي موسى الأشعري، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال : قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه؛ فسأل أبا موسى فقال : بانت منك، وأت ابن مسعود فأخبره، ففعل؛ فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال : أرضيعا ترى هذا الأشمط ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم.
فقال الأشعري : لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم.
فقوله: (لا تسألوني) يدل على أنه رجع عن ذلك.
واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل : (أرضعيه) خرجه الموطأ وغيره.
وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات؛ تمسكا بأنه كان فيما أنزل : عشر رضعات.
وكأنهم لم يبلغهم الناسخ.
وقال داود : لا يحرم إلا بثلاث رضعات؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان).
خرجه مسلم.
وهو مروى عن عائشة وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه.
وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا؛ متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع.
وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر؛ بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر.
وقال الليث بن سعد : وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم.
قال أبو عمر.
لم يقف الليث على الخلاف في ذلك.
قلت : وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تحرم المصة ولا المصتان) أخرجه مسلم في صحيحه.
وهو يفسر معنى قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر؛ غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع؛ لقوله: {عشر رضعات معلومات.
وخمس رضعات معلومات}.
فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف.
ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم.
والله أعلم.
وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يرويه عن عائشة، ومرة يرويه عن أبيه؛ ومثل هذا الاضطراب يسقطه.
وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات.
وروي عنها أنها أمرت أختها "أم كلثوم" أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات.
وروي عن حفصة مثله، وروي عنها ثلاث، وروي عنها خمس؛ كما قال الشافعي رضي الله عنه، وحكي عن إسحاق.
السابعة: قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} استدل به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل.
وقال الجمهور : قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} يدل على أن الفحل أب؛ لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده.
وهذا ضعيف؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها.
نعم، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب.
قالت : فأبيت أن آذن له؛ فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال : (ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك).
وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها؛ وهذا أيضا خبر واحد.
ويحتمل أن يكون "أفلح" مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال : (ليلج عليك فإنه عمك).
وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله، ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} يقوي قول المخالف.
الثامنة: قوله تعالى: {وأخواتكم من الرضاعة} وهي الأخت لأب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك؛ سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك.
والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك.
والأخت من الأم دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر.
ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى: {وأمهات نسائكم} والصهر أربع : أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن.
فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم التاسعة: قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} هذا مستقل بنفسه.
ولا يرجع قوله: {من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} إلى الفريق الأول، بل هو راجع إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم.
والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة.
واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره.
وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها؛ واحتجوا بالآية فقالوا : حرم الله تعالى الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر المتزوج بأمها.
والثاني : الدخول بالأم؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم.
واحتجوا بقوله عليه السلام : (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) فشرط الحجر.
ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك.
قال ابن المنذر والطحاوي : أما الحديث عن علي فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف.
قال أبو عبيد : ويدفعه قوله : (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) فعم.
ولم يقل : اللائي في حجري، ولكنه سوى بينهن في التحريم.
قال الطحاوي : وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب؛ لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك.
العاشرة: قوله تعالى: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} يعني بالأمهات.
{فلا جناح عليكم} يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها.
واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب؛ فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما.
واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي.
واختلفوا في النظر؛ فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها.
وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة.
وقال الثوري : يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها؛ ولم يذكر الشهوة.
وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس؛ وهو قول الشافعي.
والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ.
وقد يحتمل أن يقال : إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع؛ فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع؛ وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا : أليس الليل يجمع أم عمرو ** وإيانا فذاك بنا تـــدان نعم، وترى الهلال كما أراه ** ويعلوها النهار كما علاني فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم} الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة.
سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل؛.
فهي فعيلة بمعنى فاعلة.
وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال؛ فهي حليلة بمعنى محللة.
وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
الثانية عشرة: أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، كان مع العقد وطء أو لم يكن؛ لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء} وقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم }؛ فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو : إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه.
فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه.
وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ.
والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم.
والله أعلم.
قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده.
وأجمع العلماء وهي المسألة: الثالثة عشرة: على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم.
ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم.
قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه.
وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها.
وقال مالك : إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه.
وقال الشافعي : إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس؛ وهو قول الأوزاعي .
الرابعة عشرة: واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا؛ فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل بامرأته.
ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك.
وقالت طائفة : تحرم عليه.
روي هذا القول عن عمران بن حصين؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق.
والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز : أن الزنى لا حكم له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وأمهات نسائكم} وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه.
وهو قول الشافعي وأبي ثور.
لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز.
وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : (لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح).
ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله : (يا غلام من أبوك) قال : فلان الراعي.
فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال؛ فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده؛ وهي رواية ابن القاسم في المدونة.
ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور.
قال عليه السلام : (لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها) ولم يفصل بين الحلال والحرام.
وقال عليه السلام : (لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها).
قال ابن خويزمنداد : ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة.
وقال عبد الملك الماجشون : إنها تحل؛ وهو الصحيح لقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} الفرقان : 54] يعني بالنكاح الصحيح، على ما يأتي في "الفرقان" بيانه.
ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك؛ وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته؛ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فثبتت البنوة وأحكامها.
فإن قيل : فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟ فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه.
وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل، والله أعلم.
الخامسة عشرة: واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط.
وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه؛ وهو قول أحمد بن حنبل.
قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته.
وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به.
وهو قول أحمد بن حنبل.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {الذين من أصلابكم} تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب.
ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه؛ على ما يأتي بيانه في "الأحزاب".
وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : (يحرم الرضاع ما يحرم من النسب).
السابعة عشرة: قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} موضع "أن" رفع على العطف على {حرمت عليكم أمهاتكم}.
والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين.
وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله عليه السلام : (لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن).
واختلفوا في الأختين بملك اليمين؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع؛ وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة.
واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها؛ فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها.
وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.
قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطء لم يجزه.
وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة؛ لقول الله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} يعني الزوجتين بعقد النكاح.
فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله.
والله أعلم.
الثامنة عشرة: شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك.
واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين: "حرمتهما آية وأحلتهما آية".
ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية.
فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه؛ فقال له : لكني أنهاك، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا.
وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان.
والآية التي أحلتهما قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}.
ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل.
وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل.
وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.
ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وابنتها.
قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما؛ فلم يلزمه حدا.
قال أبو عمر : (أما قول علي لجعلته نكالا) ولم يقل لحددته حد الزاني؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله.
وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : (أحلتهما آية وحرمتهما آية) معلوم محفوظ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية؟ وبالله التوفيق.
التاسعة عشرة: واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها.
قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.
وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما.
هكذا قال الحكم وحماد؛ وروي معنى ذلك عن النخعي.
ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته.
فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل.
فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة.
ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة.
فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج التي يطأ غيره؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه.
قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه.
وقول مالك حسن؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال.
ولم يختلفوا في العتق؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال؛ وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه.
فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح.
الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء.
وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح؛ كما تقدم عن الشافعي.
وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد؛ وهو معنى قول الأوزاعي.
وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة.
الموفية عشرين: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.
واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة : له أن ينكح أختها وأربعا سواها؛ وروي عن عطاء، وهي أثبت الروايتين عنه، وروي عن زيد بن ثابت أيضا؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد.
قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {إلا ما قد سلف} يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: {إلا ما قد سلف} في قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}.
ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين؛ على ما قاله مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين.
وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد.
وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين؛ إحداهما نكاح امرأة الأب، والثانية، الجمع بين الأختين؛ ألا ترى أنه قال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}.
{وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} ولم يذكر في سائر المحرمات {إلا ما قد سلف}.
والله أعلم.

تفسير ابن كثير هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر، كما قال ابن عباس: حرمت عليكم سبعٌ نسباً وسبعٌ صهراً، وقرأ: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} الآية. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه، بعموم قوله تعالى: {وبناتكم} فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: {يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية واللّه أعلم. وقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) وفي لفظ لمسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، وفي لفظ آخر: (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان) وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات، ولهذا قال الشافعي وأصحابه، ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور، وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}. وقوله: {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم} أما أمُّ المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل، وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز أن يتزوج بنتها، ولهذا قال: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ، فإن لم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم} في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن، وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد، قال ابن أبي حاتم: عن ابن عباس: أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها، وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، وللّه الحمد والمنة. وأما قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصنا} وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول اللّه انكح أختي بنت أبي سفيان، وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان قال: (أو تحبين ذلك)؟ قالت: نعم لست بك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، قال: (فإن ذلك لا يحل لي) قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: (بنت أم سلمة) قالت: نعم قال: (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن) وفي رواية للبخاري: (إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي) فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف، وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود الظاهري وأصحابه، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه اللّه فاستشكله وتوقف في ذلك واللّه أعلم؛ وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس: أن عمر ابن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى فقال عمر: ما أحب أن أجيزهما جميعاً: يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني، وعن طارق بن عبد الرحمن بن قيس قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله، وقال الشيخ ابن عبد البر رحمه اللّه: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين لأن اللّه حرم ذلك في النكاح، قال: {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم}، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم، وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح إن كانت أسفل ببطون كثيرة، ومعنى قوله: {اللاتي دخلتم بهن} أي نكحتموهن قاله ابن عباس وغير واحد، وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. وقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. قال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} قال: كنا نحدّث - واللّه أعلم - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ونزلت: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}، ونزلت: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}. وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} الآية، أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج وكذا في ملك اليمين، إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه، فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف، كما قال: {ولا يذوقون فيه الموت إلا الموتة الأولى} فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً، وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً، على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خُيِّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، قال الإمام أحمد: عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى اللّه عليه وسلم أن أطلق إحداهما، وفي لفظ للترمذي: فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (اختر أيتهما شئت) "أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن" وعن أبي خراش الرعيني قال: قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال: (إذا رجعت فطلق إحداهما) وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الآية، وروي ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين فكرهه، فقال له - يعني السائل - يقول اللّه تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم}، فقال له ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك، وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك، وقال الإمام مالك: سأل رجل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأمنع ذلك، فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالا، وقال مالك قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. وعن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ فقال علي رضي اللّه عنه: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى، قلت: فإن ناساً يقولون بل تزوّجُها ثم تطأ الأخرى، فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك، ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب اللّه عزّ وجل من الحرائر إلا العدد أو قال إلا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب" رواه ابن عبد البر في الاستذكار" ثم قال أبو عمر: هذا الحديث لو رحل رجل من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة ولم يصب غيره لما خابت رحلته. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، وكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين، وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات {إلا ما ملكت أيمانكم} يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك، وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبياً من سبي أوطاس، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} فاستحللنا فروجهن. وفي رواية مسلم أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابوا سبياً يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير: كان عبد اللّه يقول: بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وعن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها وعن ابن المسيب قوله: {المحصنات من النساء}، قال: هذه ذوات الأزواج حرم اللّه نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها. فهذا قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها، لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيّرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط واللّه أعلم، وقد قيل المراد بقوله: {والمحصنات من النساء} يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاووس وغيرهما، وقال عمر وعبيدة: {والمحصنات من النساء} ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم. وقوله تعالى: {كتاب اللّه عليكم} أي هذا التحريم كتاب كتبه اللّه عليكم، يعني الأربع فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه. وقال عطاء والسدي في قوله: {كتاب اللّه عليكم} يعني الأربع، وقال إبراهيم: {كتاب اللّه عليكم} يعني ما حرم عليكم، وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} أي ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره، وقال قتادة: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}: يعني ما ملكت أيمانكم، وهذه الآية التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقوله تعالى: {وأن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال: {محصنين غير مسافحين} وقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كما قال تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} وكقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} وكقوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح، ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك، وقد قيل بإباحتها لضرورة وهي رواية عن الإمام أحمد، وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام، وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: (يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام. وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو من شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك، وقال ابن جرير: إن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {ولا جناج عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق، وقوله تعالى: {إن اللّه كان عليما حكيما} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি