نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة آل عمران آية 7
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

التفسير الميسر هو وحده الذي أنزل عليك القرآن: منه آيات واضحات الدلالة، هن أصل الكتاب الذي يُرجع إليه عند الاشتباه، ويُرَدُّ ما خالفه إليه، ومنه آيات أخر متشابهات تحتمل بعض المعاني، لا يتعيَّن المراد منها إلا بضمها إلى المحكم، فأصحاب القلوب المريضة الزائغة، لسوء قصدهم يتبعون هذه الآيات المتشابهات وحدها؛ ليثيروا الشبهات عند الناس، كي يضلوهم، ولتأويلهم لها على مذاهبهم الباطلة. ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله. والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن، كله قد جاءنا من عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويردُّون متشابهه إلى محكمه، وإنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة.

تفسير الجلالين
7 - (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) واضحات الدلالة (هن أم الكتاب) أصله المعتمد عليه في الأحكام (وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها كأوائل السور وجعله كله محكما في قوله {أحكمت آياته} بمعنى أيه ليس فيه عيب ، ومتشابها في قوله {كتابا متشابها} بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق (فأما الذين في قلوبهم زيغ) ميل عن الحق (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء) طلب (الفتنة) لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وابتغاء تأويله) تفسيره (وما يعلم تأويله) تفسيره (إلا الله) وحده (والراسخون) الثابتون المتمكنون (في العلم) مبتدأ خبره (يقولون آمنا به) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كل) من المحكم والمتشابه (من عند ربنا وما يذَّكر) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي يتعظ (إلا أولوا الألباب) أصحاب العقول ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه:

تفسير القرطبي
فيه تسع مسائل: الأولى: خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم‏)‏‏.
‏ وعن أبي غالب قال‏:‏ كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال‏:‏ ما هذه الرؤوس‏؟‏ قيل‏:‏ هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة‏:‏ كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى فقلت‏:‏ ما يبكيك يا أبا أمامة‏؟‏ قال‏:‏ رحمة لهم، ‏(‏إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات‏.
‏ ‏.
‏‏.
‏‏}‏ إلى آخر الآيات‏.
‏ ثم قرأ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏.
‏‏.
‏‏.
‏‏}[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.
‏ فقلت‏:‏ يا أبا أمامة، هم هؤلاء‏؟‏ قال نعم‏.
‏ قلت‏:‏ أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ إني إذا لجريء إني إذا لجريء‏!‏ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال‏:‏ وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا - ‏ ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدةً , واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار‏)‏‏.
‏ الثانية: اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة؛ فقال جابر بن عبدالله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما‏:‏ ‏(‏المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه، قال بعضهم‏:‏ وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور‏)‏‏.
‏ قلت‏:‏ هذا أحسن ما قيل في المتشابه‏.
‏ وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم ‏(‏أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء‏.
‏‏.
‏‏.
‏‏)‏ الحديث‏.
‏ وقال أبو عثمان‏:‏ المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها‏.
‏ وقال محمد بن الفضل‏:‏ سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط‏.
‏ وقد قيل‏:‏ القرآن كله محكم‏:‏ لقوله تعالى‏ {‏كتاب أحكمت آياته‏}[‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.
‏ وقيل‏:‏ كله متشابه؛ لقوله‏ {‏كتابا متشابها‏}[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.
‏ قلت‏:‏ وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى‏ {‏كتاب أحكمت آياته‏}‏ أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله‏.
‏ ومعنى ‏{‏كتابا متشابها‏}‏، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً‏.
‏ وليس المراد بقوله‏ {‏آيات محكمات‏}‏ ‏{‏وأخر متشابهات‏}‏ هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله‏ {‏إن البقر تشابه علينا‏}[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر‏.
‏ والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً‏.
‏ وقيل‏:‏ إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما‏.
‏ فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع‏.
‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحكمات هو قوله في سورة [الأنعام] ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}[‏الأنعام‏:‏151‏]‏ إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}[‏الإسراء 23‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات‏.
‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به‏)‏ وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ ‏(‏المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏)‏ وقاله قتادة والربيع والضحاك‏.
‏ وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه‏.
‏ والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق‏.
‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية‏.
‏ قال النحاس‏:‏ أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو ‏{‏لم يكن له كفوا أحد‏}[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}[‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.
‏ والمتشابهات نحو ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعا‏}[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ يرجع فيه إلى قوله جل وعلا‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}[‏طه‏:‏ 82‏]‏ وإلى قوله عز وجل‏ {‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.
‏ قلت‏:‏ ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال‏.
‏ والله أعلم‏.
‏ وقال ابن خويزمنداد‏:‏ للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين‏.
‏ فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون‏:‏ ‏(‏سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا‏)‏ وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ‏.
‏ وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ‏.
‏ وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ يمنع ذلك‏.
‏ ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه‏.
‏ وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه‏.
‏ والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه ‏‏في [المائدة‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.
‏ الثالثة: روى البخاري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي‏.
‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏ {‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وقال‏ {‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وقال‏ {‏ولا يكتمون الله حديثا‏}[‏النساء‏:‏42‏]‏ وقال‏ {‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فقد كتموا في هذه الآية‏.
‏ وفي النازعات ‏{‏أم السماء بناها‏}‏ إلى قوله ‏{‏دحاها‏}[‏النازعات‏:‏ 27 - 28 - 29 - 30‏]‏ فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال‏ {‏أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏.
‏‏.
‏‏.
‏ إلى‏:‏ طائعين‏}[‏فصلت‏:‏9، 0 1، 11‏]‏ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء‏.
‏ وقال‏ {‏وكان الله غفورا رحيما‏}[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ ‏{‏وكان الله عزيزا حكيما‏}[‏النساء‏:‏ 158‏]‏‏.
‏ ‏{‏وكان الله سميعا بصيرا‏}‏[النساء‏:‏134‏]‏ فكأنه كان ثم مضى‏.
‏ فقال ابن عباس‏:‏ ‏‏{‏فلا أنساب بينهم‏}‏ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.
‏ وأما قوله‏{‏ما كنا مشركين‏}‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏}‏ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون‏:‏ تعالوا نقول‏:‏ لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏.
‏ وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله‏ {‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏‏.
‏ فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين‏.
‏ وقوله‏ {‏وكان الله غفورا رحيما‏} يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد‏.
‏ ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله.
الرابعة: قوله تعالى‏ {‏وأخر متشابهات‏} لم تصرف ‏{‏أُخر‏} لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف‏.
‏ أبو عبيد‏:‏ لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة‏.
‏ وأنكر ذلك‏ المبرد وقال:‏ يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش‏.
‏ الكسائي‏:‏ لم تنصرف لأنها صفة‏.
‏ وأنكره المبرد أيضا وقال‏:‏ إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان‏.
‏ سيبويه‏:‏ لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة،حَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال‏:‏ ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة‏ الخامسة: قوله تعالى‏ {‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏} الذين رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏}‏‏.
‏ والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار‏.
‏ ويقال‏:‏ زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى‏ {‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏} آية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران‏.
‏ وقال قتادة في تفسير قوله تعالى‏ {‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري قلت‏:‏ قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك‏ قوله تعالى‏ {‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏} قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه‏:‏ متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال‏.
‏ فهذه أربعة أقسام‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ لا شك في كفرهم، وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة‏.
‏ ‏(‏الثاني‏)‏ الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد.
‏(‏الثالث‏)‏ اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها‏.
‏ وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت‏.
‏ وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها‏.
‏ ‏(‏الرابع‏)‏ الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ‏.
‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير،يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل‏.
‏ فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل‏.
‏ فلما حضر قال له عمر‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا عبدالله صبيغ‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وأنا عبدالله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال‏:‏ حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي‏.
‏ وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في ‏[‏الذاريات‏]‏‏.
ثم إن الله ‏تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته‏.
‏ ومعنى ‏{‏ابتغاء الفتنة‏} طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم‏.
‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏ابتغاء تأويله‏} أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله‏.
‏ قال‏:‏ والدليل على ذلك قوله تعالى‏ {‏هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله‏} أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏} أي تركوه - ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏} أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال‏:‏ فالوقف على قوله تعالى‏ {‏وما يعلم تأويله إلا الله‏} أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله السابعة: قوله تعالى‏ {‏وما يعلم تأويله إلا الله‏} يقال‏:‏ إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بلغنا أنه نزل عليك ‏{‏آلم‏} فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل ثلاثون، والميم أربعون، فنزل ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏}‏‏.
‏ والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك‏:‏ تأويل هذه الكلمة على كذا‏.
‏ ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه‏.
‏ واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه، أي صار‏.
‏ وأولته تأويلا أي صيرته‏.
و‏قد حده بعض الفقهاء فقالوا‏:‏ هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه‏.
‏ فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله ‏{‏لا ريب فيه‏}[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ أي لا شك‏.
‏ وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال‏:‏ فسرت الشيء ‏(‏مخففا‏)‏ أفسره ‏(‏بالكسر‏)‏ فسرا‏.
‏ والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك‏.
‏ وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل‏ {‏يا بني آدم} الثامنة: قوله تعالى‏ {‏والراسخون في العلم‏} اختلف العلماء في ‏{‏والراسخون في العلم‏} هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع‏.
‏ فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله ‏{‏إلا الله‏} هذا قول ابن عمر وبن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم‏.
‏ قال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة‏.
‏ وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏}‏‏.
‏ وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.
‏ و‏{‏يقولون‏} على هذا خبر ‏{‏الراسخون‏}‏‏.
‏ قال الخطابي‏:‏ وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين‏:‏ محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل‏ {‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.
‏‏.
‏‏.
‏ إلى قوله‏:‏ كل من عند ربنا‏} فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به‏.
‏ ولولا صحة الإيمان منه لم يستحقوا الثناء عليه‏.
‏ ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى‏ {‏وما يعلم تأويله إلا الله‏} وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله ‏{‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏}‏‏.
‏ وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة وإنما روي عن مجاهد أنه نسق ‏{‏الراسخون‏} على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه‏.
‏ واحتج له بعض أهل اللغة فقال‏:‏ معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع ‏{‏يقولون‏} نصب على الحال‏.
‏ وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال‏:‏ عبدالله راكبا، بمعنى أقبل عبدالله راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله‏:‏ عبدالله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان ‏{‏يصلح‏} حالا له؛ كقول الشاعر أنشدانيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - ‏:‏ أرسلت فيها قطما لكالكا ** يقصر يمشي ويطول باركا أي يقصر ماشيا؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك‏.
‏ ألا ترى قوله عز وجل‏ {‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}[النمل‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏ {‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}[‏الأعراف‏:‏ 87]‏ وقوله‏ {‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}[‏القصص‏:‏ 88‏]‏، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره‏.
‏ وكذلك قوله تبارك وتعالى‏ {‏وما يعلم تأويله إلا الله‏} ولو كانت الواو في قوله {و‏الراسخون‏} للنسق لم يكن لقوله‏: {‏كل من عند ربنا‏} فائدة‏.
‏ والله أعلم.
قلت‏:‏ ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم‏.
‏ و‏‏يقولو هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال‏:‏ الريح تبكي شجوها ** والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين؛ فيجوز أن يكون ‏{‏والبرق‏} مبتدأ، والخبر ‏{‏يلمع‏} على التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله‏.
‏ ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و‏{‏يلمع‏} في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا‏.
‏ واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله مدحهم بالرسوخ في العلم؛ فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أنا ممن يعلم تأويله‏)‏ وقرأ مجاهد هذه الآية وقال‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قلت‏:‏ وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال‏:‏ وتقدير تمام الكلام ‏{‏عند الله‏} أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه‏.
‏ فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل‏:‏ قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين، قيل له‏ هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه‏.
‏ وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر‏.
‏ ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس‏:‏ ‏(‏اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل‏)‏ ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك‏.
‏ والوقف على هذا يكون عند قوله ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏‏.
‏ قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر‏:‏ وهو الصحيح؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب‏.
‏ وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع‏!‏‏.
‏ لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره‏.
‏ فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم؛ كقوله في عيسى‏ {‏وروح منه‏}[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك‏.
‏ فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له‏.
‏ وأما من يقول‏:‏ إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح والرسوخ‏:‏ الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ‏.
‏ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر: لقد رسخت في الصدر مني ** مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا‏.
‏ وحكى بعضهم‏:‏ رسخ الغدير‏:‏ نضب ماؤه؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد‏.
‏ ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه‏.
‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال‏:‏ ‏(‏هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه).
‏ فإن قيل‏:‏ كيف كان في القرآن متشابه والله يقول‏ {‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}[‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فكيف لم يجعله كله واضحا‏؟‏ قيل له‏:‏ الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض.
وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه‏.
‏ والله أعلم‏.
التاسعة: قوله تعالى‏ {‏كل من عند ربنا‏} فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير‏:‏ كله من عند ربنا‏.
‏ وحذف الضمير لدلالة ‏{‏كل‏} عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.
‏ ثم قال‏ {‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏} أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع إتباع المتشابه إلا ذو لبّ، وهو العقل‏.
‏ ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب‏.
‏ و‏{‏أولو‏} ‏جمع ذو‏.

تفسير ابن كثير يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات {هنَّ أم الكتاب} أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: {هن أم الكتاب} أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وأخر متشابهات} أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظُ والتركيبُ لا من حيث المراد، وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فقال ابن عباس: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به. وقال يحيى بن يعمر: الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام، وقال سعيد بن جبير: {هنّ أم الكتاب} لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، وقال مقاتل: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن. وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به، روي عن ابن عباس، وقيل: هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان، وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله: {كتابا متشابهاً مثاني} هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك، وأما ها هنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه ابن يسار رحمه اللّه حيث قال: {منه آيات محكمات} فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، قال: والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى اللّه فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق. ولهذا قال اللّه تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فيتبعون ما تشابه منه} أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال اللّه تعالى: {ابتغاء الفتنة} أي الإضلال لأتباعهم، إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقول: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه}، وبقول: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْقٌ من مخلوقات اللّه، وعبد ورسول من رسل اللّه. وقوله تعالى: {وابتغاء تأويله} أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} إلى قوله: {أولو الألباب} فقال: (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى اللّه فاحذروهم). وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} إلى قوله: {وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللّه فاحذروهم). وروى أحمد عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} قال: (هم الخوارج)، وفي قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال: (هم الخوارج)، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى اللّه عليه وسلم غنائم حنين فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة - بقر اللّه خاصرته - اعدل فإنك لم تعدل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لقد خبت وخسرت. إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني)! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم). ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم في قوله: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، قالوا: ومن يا رسول اللّه؟ قال: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر: (إنّ في أمتي قوما يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل: أردأ التمر يتأولونه على غير تأويله). وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} اختلف القراء في الوقف ههنا، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به)، وقال عبد الرزاق: كان ابن عباس يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنَس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد اللّه بن مسعود: إنْ تأويله إلا عند اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به واختار ابن جرير هذا القول. ومنهم من يقف على قوله تعالى: {والراسخون في العلم} وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنَس، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان، أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يئول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى: {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل}، وقوله: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا اللّه عزّ وجلّ؛ ويكون قوله {والراسخون في العلم} مبتدأ و{يقولون آمنا به} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر: وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: {نبئنا بتأويله} أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على {والراسخون في العلم} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: {يقولون آمنا به} حالاً منهم، وساغ هذا وإن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى قوله - يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا} الآية، وقوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً. وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتاشبه {كلّ من عند ربنا} أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند اللّه وليس شيء من عند اللّه بمختلف ولا متضاد، كقوله: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}، ولهذا قال تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده: حدَّثنا عبد اللّه بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أنَسا وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال: (من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخون في العلم)، وقال الإمام أحمد بسنده: سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوماً يتدارءون، فقال: (إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب اللّه ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه). وعن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله) ""رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده"" وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال: الراسخون في العلم المتواضعون للّه المتذللون للّه في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي لا تُمِلها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. {وهب لنا من لدنك رحمة} تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانا وإيقاناً {إنك أنت الوهاب} عن أم سلمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ثم قرأ: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ""رواه ابن أبي حاتم عن أم سلمة"" وعن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدّث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكثر من دعائه: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، قالت، قلت يا رسول اللّه وإن القلب ليتقلب؟ قال: (نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع اللّه عزّ وجلّ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه) ""رواه ابن مردويه وابن جرير"". قلت: يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو به لنفسي، قال: (بلى، قولي: اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن). وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيرا ما يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) قلت: يا رسول اللّه ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال: (ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}) ""رواه ابن مردويه، قال ابن كثير: وأصله في الصحيحين""وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي اللّه عنها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: (لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب) ""رواه أبو داود والنسائي"" وقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} أي يقولون من دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি