نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة البقرة آية 285
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

التفسير الميسر صدَّق وأيقن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من ربه وحُقَّ له أن يُوقن، والمؤمنون كذلك صدقوا وعملوا بالقرآن العظيم، كل منهم صدَّق بالله رباً وإلهًا متصفًا بصفات الجلال والكمال، وأن لله ملائكة كرامًا، وأنه أنزل كتبًا، وأرسل إلى خلقه رسلا لا نؤمن -نحن المؤمنين- ببعضهم وننكر بعضهم، بل نؤمن بهم جميعًا. وقال الرسول والمؤمنون: سمعنا يا ربنا ما أوحيت به، وأطعنا في كل ذلك، نرجو أن تغفر -بفضلك- ذنوبنا، فأنت الذي ربَّيتنا بما أنعمت به علينا، وإليك -وحدك- مرجعنا ومصيرنا.

تفسير الجلالين
285 - (آمن) صدق (الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم (بما أنزل إليه من ربه) من القرآن (والمؤمنون) عطف عليه (كلٌ) تنوينه عوض عن المضاف إليه (آمن بالله وملائكته وكتبه) بالجمع والإفراد (ورسله) يقولون (لا نفرق بين أحد من رسله) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى (وقالوا سمعنا) أي ما أمرنا به سماع قبول (وأطعنا) نسألك (غفرانك ربنا وإليك المصير) المرجع بالبعث ، ولما نزلت الآية التي قبلها شكا المؤمنون من الوسوسة وشق عليهم المحاسبة بها فنزل:

تفسير القرطبي
فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} روي عن الحسن ومجاهد والضحاك : أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم : جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلى الله عليه وسلم : هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم : لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال إنها كانت ليلة المعراج قال : لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل : إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : التحيات لله والصلوات والطيبات.
قال الله تعالى : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وأهل السماوات كلهم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال الله تعالى: {آمن الرسول} على معنى الشكر أي صدق الرسول {بما أنزل إليه من ربه} فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ؟ وهو قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) يعني المرجع.
فقال الله تعالى عند ذلك {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} يعني طاقتها ويقال : إلا دون طاقتها.
{لها ما كسبت} من الخير {وعليها ما اكتسبت} من الشر، فقال جبريل عند ذلك : سل تعطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا} يعني إن جهلنا {أو أخطأنا} يعني إن تعمدنا، ويقال : إن عملنا بالنسيان والخطأ.
فقال له جبريل : قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان.
فسل شيئا آخر فقال: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} يعني ثقلا {كما حملته على الذين من قبلنا} وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الأمة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة.
ثم قال: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} يقول : لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال : ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه {واعف عنا} من ذلك كله {واغفر لنا} وتجاوز عنا، ويقال {واعف عنا} من المسخ {واغفر لنا} من الخسف {وارحمنا} من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال {أنت مولانا} يعني ولينا وحافظنا {فانصرنا على القوم الكافرين} فاستجيبت دعوته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (نصرت بالرعب مسيرة شهر) ويقال إن الغزاة : إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك.
ولهذه الآية تفسير آخر، قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله سبحانه وتعالى: {لله ما في السماوات وما في الأرض} ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة : 284] فإنه لما أنزل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة : 285].
فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال : (نعم) {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال : (نعم) {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال : (نعم) {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال : (نعم).
أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
قال علماؤنا : قوله في الرواية الأولى: (قد فعلت) وهنا قال : (نعم) دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم.
ولما تقرر الأمر على أن قالوا : سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا : سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إن بيت ثابت بن قيس بن شماس يزهر كل ليلة بمصابيح.
قال : (فلعله يقرأ سورة البقرة) فسئل ثابت قال : قرأت من سورة البقرة {آمن الرسول} نزلت حين شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم.
على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل) قالوا : بل سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تعالى ثناء عليهم {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} فقال صلى الله عليه وسلم : (وحق لهم أن يؤمنوا).
الثانية: قوله تعالى: {آمن} أي صدق، وقد تقدم.
والذي أنزل هو القرآن.
وقرأ ابن مسعود {وآمن المؤمنون كل آمن بالله} على اللفظ، ويجوز في غير القرآن {آمنوا} على المعنى.
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر {وكتبه} على الجمع.
وقرءوا في التحريم "كتابه"، على التوحيد.
وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم و"كتبه" على الجمع.
وقرأ حمزة والكسائي "وكتابه" على التوحيد فيهما.
فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله.
ويجوز في قراءة من وحد أن يراد به الجمع يكون الكتاب اسما للجنس فتستوي القراءتان، قال الله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب} [البقرة : 213].
قرأت الجماعة "ورسله" بضم السين، وكذلك "رسُلنا" و"رسُلكم" و"رسلك"، إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف "رسْلنا" و"رسْلكم"، وروي عنه في "رسلك" التثقيل والتخفيف.
قال أبو علي : من قرأ "رسلك" بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد، مثل عنق وطنب.
وإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقال معناه مكي.
وقرأ جمهور الناس "لا نفرق" بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، فحذف القول، وحذف القول كثير، قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب}.
.
.
{سلام عليكم} [الرعد : 23] : أي يقولون سلام عليكم.
وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران : 191] أي يقولون ربنا، وما كان مثله.
وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويعقوب "لا يفرق" بالياء، وهذا على لفظ كل.
قال هارون : وهي في حرف ابن مسعود "لا يفرقون".
وقال: {بين أحد} على الإفراد ولم يقل آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجميع، كما قال تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة : 47] فـ {حاجزين} صفة لأحد، لأن معناه الجمع.
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما أحلت الغنائم لأحد سود الرءوس غيركم) وقال رؤبة : إذا أمور الناس دينت دينكا ** لا يرهبون أحدا من دونكا ومعنى هذه الآية : أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
الثالثة: قوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا} فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين.
وقيل : سمع بمعنى قبل، كما يقال : سمع الله لمن حمده فلا يكون فيه حذف.
وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله.
والطاعة قبول الأمر.
وقوله: {غفرانك} مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره : اغفر غفرانك، قاله الزجاج.
وغيره : نطلب أو أسأل غفرانك.
{وإليك المصير} إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل : (إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه) فسأل إلى آخر السورة.
الرابعة: قوله تعالى‏: {‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏} التكليف هو الأمر بما يشق عليه.
وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري‏.
‏ والوسع‏:‏ الطاقة والجدة‏.
‏ وهذا خبر جزم‏.
‏ نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر‏.
‏ وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُّب وهو يقول‏:‏ ما كلف الله نفسا فوق طاقتها** ولا تجود يد إلا بما تجد الخامسة: اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين‏:‏ تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة‏.
‏ واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا‏؟‏ فقال فرقة‏:‏ وقع في نازلة أبي لهب، لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن‏.
‏ وقالت فرقة‏:‏ لم يقع قط‏.
‏ وقد حكى الإجماع على ذلك‏.
‏ وقوله تعالى‏: {‏سيصلى نارا‏} [‏المسد‏:‏ 3‏]‏ معناه إن وافى، حكاه ابن عطية‏.
‏ ‏{‏ويكلف‏}‏ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا‏.
‏ فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا‏.
‏ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة‏.
‏ السادسة: قوله تعالى‏: {‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي‏.
‏ وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قاله ابن عطية‏.
‏ وهو مثل قوله: ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏} [‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏} [‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.
‏ والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان‏.
‏ وجاءت العبارة في الحسنات بـ ‏{‏لها}‏ من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات بـ ‏{‏عليها‏}‏ من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول‏:‏ لي مال وعلى دين‏.
‏ وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال‏: {‏فمهل الكافرين أمهلهم رويدا‏} [‏الطارق‏:‏ 17‏]‏‏.
‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى‏.
‏ السابعة: في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة‏.
‏ ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض‏.
‏ وقال المهدوي وغيره‏:‏ وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد‏.
‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية‏.
‏ الثامنة: قال الكيا الطبري‏:‏ قوله تعالى‏: {‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه‏.
‏ ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها‏.
‏ وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏: {‏ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل‏.
‏ وقالوا‏:‏ إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة‏}‏‏.
‏ التاسعة: قوله تعالى‏: {‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ المعنى‏:‏ اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ أي إثم ذلك‏.
‏ وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ‏؟‏ اختلف فيه‏.
‏ والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات‏.
‏ وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر‏.
‏ وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع‏.
‏ العاشرة: قوله تعالى‏: {‏ربنا ولا تحمل علينا إصرا‏}‏ أي ثقلا قال مالك والربيع‏:‏ الإصر الأمر الغليظ الصعب‏.
‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ الإصر شدة العمل‏.
‏ وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، قال الضحاك‏:‏ كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة‏:‏ يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ** والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا عطاء‏:‏ الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا‏.
‏ وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة‏.
‏ والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى‏: {‏وأخذتم على ذلكم إصري‏}‏‏.
‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ والإصر‏:‏ الضيق والذنب والثقل‏.
‏ والإصار‏:‏ الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال‏:‏ أصر يأصر أصرا حبسه‏.
‏ والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري‏:‏ والموضع مأصِر ومأصَر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر‏.
‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى: ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏} [‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏ و كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين يسر فيسروا ولا تعسروا‏)‏‏.
‏ اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.
‏ قلت‏:‏ ونحوه قال الكيا الطبري قال‏:‏ يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين‏.

تفسير ابن كثير ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا اللّه بهما الحديث الأول: قال البخاري عن ابن مسعود، قال قال رسول اللّه : (من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) الحديث الثاني، قال الإمام أحمد عن أبي ذر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي). الحديث الثالث: قال مسلم عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد اللّه قال: لما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. الحديث الرابع: قال أحمد عن عقبة بن عامر الجهني قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش) الحديث الخامس: قال ابن مردويه عن حذيفة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي)، الحديث. الحديث السادس قال ابن مردويه عن الحارث عن علي قال: لا أرى أحداً عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى اللّه عليه وسلم من تحت العرش. الحديث السابع قال الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليلا فيقر بها شيطان)، ثم قال هذا حديث غريب. الحديث الثامن : قال ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال: (إنهما من كنز الرحمن تحت العرش) وإذا قرأ: {ومن يعمل سوءاً يجز به}، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى} استرجع واستكان. . الحديث التاسع قال ابن مردويه عن معقل بن يسار قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة). الحديث العاشر: قد تقدم في فضائل الفاتحة عن ابن عباس قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال فنزل منه ملك فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلأ أوتيته""رواه مسلم والنسائي. فقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} إخبار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك. روى الحاكم في مستدركه عن أنَس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلم : {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (حق له أن يؤمن) ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقوله تعالى: {والمؤمنون} عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع، فقال: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} فالمؤمنون يؤمنون بأن اللّه واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد اللّه المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن اللّه حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى اللّه عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، وقوله: {وقالوا سمعنا وأطعنا} أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه، {غفرانك ربنا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف. قال ابن جرير: لما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} قال جبريل: إن اللّه قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل: {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} إلى آخر الآية، وقوله: {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}، أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان، وقوله: {لها ما كسبت} أي من خير، {وعليها ما اكتسبت} أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلَّمهم أن يقولوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} أي إن تركنا فرضنا على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منه بوجهه الشرعي. وعن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "" رواه ابن ماجة وابن حبان"" وعن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اللّه تجاوز لأمتي عن ثلاث: الخطأ، والنسيان والاستكراه). قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل أما تقرأ بذلك قرآنا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ""رواه ابن أبي حاتم"" وقوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قلنا من الأغلال والآصار، التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمداً صلى اللّه عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه، في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح. وجاء في الحديث من طرق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالحنيفية السمحة). وقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلينا بما لا قبل لنا به، وقد قال مكحول في قوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال : العزبة والغلمة. وقوله تعالى: {واعف عنا} أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا، {واغفر لنا} أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة، {وارحمنا} أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو اللّه عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقوله تعالى: {أنت مولانا} أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا، وأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، {فانصرنا على القوم الكافرين} أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم. قال ابن جرير عن أبي إسحاق: إن معاذاً رضي اللّه عنه كان إذا فرغ من هذه السورة {وانصرنا على القوم الكافرين} قال: آمين.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি