نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة الفرقان آية 20
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا

التفسير الميسر وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - أحدًا مِن رسلنا إلا كانوا بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. وجعلنا بعضكم- أيها الناس- لبعض ابتلاء واختبارًا بالهدى والضلال، والغنى والفقر، والصحة والمرض، هل تصبرون، فتقوموا بما أوجبه الله عليكم، وتشكروا له، فيثيبكم مولاكم، أو لا تصبرون فتستحقوا العقوبة؟ وكان ربك - أيها الرسول - بصيرًا بمن يجزع أو يصبر، وبمن يكفر أو يشكر.

تفسير الجلالين
20 - (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل لهم ما قيل لك (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) بلية ابتلي الغنى بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع يقول الثاني في كل مالي لا أكون كالأول في كل (أتصبرون) على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا (وكان ربك بصيرا) بمن يصبر وبمن يجزع

تفسير القرطبي
قوله {ويوم يحشرهم} قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري {يحشرهم} بالياء.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام{كان على ربك} وفي آخره {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء}.
الباقون بالنون على التعظيم.
{وما يعبدون من دون الله} من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير؛ قاله مجاهد وابن جريج.
الضحاك وعكرمة : الأصنام.
{فيقول} قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم.
{أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} وهذا استفهام توبيخ للكفار.
{قالوا سبحانك}أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيها لك {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} فإن قيل : فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له : ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل.
وقرأ الحسن وأبو جعفر {أن نتخذ} بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول.
وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر : لا يجوز {نتخذ}.
وقال أبو عمرو : لو كانت {نتخذ} لحذفت {من} الثانية فقلت : أن نتخذ من دونك أولياء.
كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز {نتخذ} لأن الله تعالى ذكر {من} مرتين، ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء.
وقيل : إن {من} الثانية صلة قال النحاس : ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة.
وشرح ما قال أنه يقال : ما اتخذت رجلا وليا؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال : ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك {وليا} تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه {من} لأنه لا فائدة في ذلك.
{ولكن متعتهم وآباءهم} أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم.
{حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا} أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك.
وفي الذكر قولان : أحدهما : القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد.
الثاني : الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم.
إنهم {كانوا قوما بورا} أي هلكى؛ قال ابن عباس.
مأخوذ من البوار وهو الهلاك.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص : يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال : ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا.
فقوله {بورا} أي هلكى.
وفي خبر آخر : فأصبحت منازلهم بورا؛ أي خالية لا شيء فيها.
وقال الحسن {بورا} لا خير فيهم.
مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير.
وقال شهر بن حوشب : البوار.
الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث : (نعوذ بالله من بوار الأم).
وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
قال ابن الزبعرى : يا رسول المليك إن لساني ** راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أباري الشيطان في سنن الغـ ** ـي ومن مال ميله مثبور وقال بعضهم : الواحد بائر والجمع بور.
كما يقال : عائذ وعوذ، وهائد وهود.
وقيل {بورا} عميا عن الحق.
قوله {فقد كذبوكم بما تقولون} أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين {فقد كذبوكم بما تقولون} أي في قولكم إنهم آلهة.
{فما تستطيعون} يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم.
وقيل : فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صرفا} للعذاب {ولا نصرا} من الله.
قال ابن زيد : المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى {بما تقولون} بما تقولون من الحق.
وقال أبو عبيد : المعنى؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم.
وقراءة العامة {بما تقولون} بالتاء على الخطاب.
وقد بينا معناه.
وحكى الفراء أنه يقرأ {فقد كذبوكم} مخففا، {بما يقولون}.
وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى {يقولون} بقولهم.
وقرأ أبو حيوة {بما يقولون}بياء {فما تستطيعون} بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء.
ومن قرأ بالياء فالمعنى : فما يستطيع الشركاء.
{ومن يظلم منكم} قال ابن عباس : من يشرك منكم ثم مات عليه.
{نذقه} أي في الآخرة.
{عذابا كبيرا} أي شديدا؛ كقوله {ولتعلن علوا كبيرا} الإسراء 4 أي شديدا.
قوله {وما أرسلنا قبلك من المرسلين}.
فيه تسع مسائل: الأولى: قوله {وما أرسلنا قبلك من المرسلين} نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} الفرقان 7 .
وقال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام}الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسوق{ أي يبتغون المعايش في الدنيا.
الثانية: قوله {إلا إنهم ليأكلون الطعام} إذا دخلت اللام لم يكن في {إن} إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة.
هذا قول جميع النحويين.
قال النحاس : إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال : يجوز في {إن} هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهما منه.
قال أبو إسحاق الزجاج : وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لأن في قوله {من المرسلين} ما يدل عليه.
فالموصوف محذوف عند الزجاج.
ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء.
قال الفراء : والمحذوف {من} والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام.
وشبهه بقوله {وما منا إلا له مقام معلوم} الصافات164 ، وقوله {وإن منكم إلا واردها} مريم71، أي ما منكم إلا من هو واردها.
وهذا قول الكسائي أيضا.
وتقول العرب : ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك.
فقولك : إنه ليطيعك صلة من.
قال الزجاج : هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها.
وقال أهل المعاني : المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} فصلت43 .
وقال ابن الأنباري : كسرت {إنهم}بعد {إلا} للاستئناف بإضمار واو.
أي إلا وإنهم.
وذهبت فرقة إلى أن قوله {ليأكلون الطعام} كناية عن الحدث.
قلت : وهذا بليغ في معناه، ومثله {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} المائدة 75 .
{ويمشون في الأسواق} قرأ الجمهور {يمشون} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين.
وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه.
وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى يمشون؛ قال الشاعر : ومشى بأعطان المباءة وابتغى ** قلائص منها صعبة وركوب وقال كعب بن زهير : منه تظل سباع الجو ضامزة ** ولا تمشي بواديه الأراجيل بمعنى تمشي.
الثالثة: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك.
وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول : قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى : إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبا له : هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق {وعلمناه صنعة لبوس لكم} الأنبياء 80 .
وقال {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون.
وقال عليه الصلاة والسلام : (جعل رزقي تحت ظل رمحي) وقال {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} الأنفال 69 وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء.
قال : إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحاب الصفة.
قلت : لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} النحل 44 وقال {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية [البقرة 159] .
وهذا من البيان والهدى.
وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول صلى الله عليه وسلم.
كذا وصفهم البخاري وغيره.
ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا.
وبالأسباب أمروا.
ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} الآية [الأنفال 60 ] مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك.
وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم {اضرب بعصاك البحر} الشعراء 63 وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا.
وكذلك مريم عليها السلام {وهزي إليك بجذع النخلة} مريم 25 وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة.
هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله {وفي السماء رزقكم وما توعدون} الذاريات 22 فإنا نقول : صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله {وينزل لكم من السماء رزقا} غافر 13، وقال {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} ق 9، ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ ومعنى قوله عليه السلام : (اطلبوا الرزق في خبايا الأرض) أي بالحرث والحفر والغرس.
وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب.
وقال عليه السلام : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه) وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب.
ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام : (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروج بطانا) فغدوها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم.
ثبت في البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى {وتزودوا} البقرة 197.
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا.
والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر.
وهذا هو الحق.
سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال : إنى أريد الحج على قدم التوكل.
فقال : اخرج وحدك؛ فقال : لا، إلا مع الناس.
فقال له : أنت إذن متكل على أجربتهم.
وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة .
الرابعة: خرّج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).
""وخرج البزار عن سلمان الفارسي"" قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته).
أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ).
ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان.
وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر : كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها.
فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وإنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
الخامسة: تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا.
فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.
السادسة: قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون : لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة (الأكل في السوق دناءة).
قلت : ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن.
وأما غيرهما من الأسواق، فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا.
نعوذ بالله من سخطه.
السابعة: خرّج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : (من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة) ""خرجه الترمذي"" أيضا وزاد بعد (ومحا عنه ألف ألف سيئة) : (ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة).
وقال : هذا حديث غريب.
قال : ابن العربي : وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
الثامنة: قوله {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني.
ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه.
والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى {أتصبرون} : أي على الحق.
وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف؟ والأعمى يقول : لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة.
والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره.
وكذلك العلماء وحكام العدل.
ألا ترى إلى قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} الزخرف 31 .
فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى.
والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر.
{أتصبرون} محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون.
فيقتضي جوابا كما قال المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية{أتصبرون} فقال : بلى ربنا! نصبر ونحتسب.
وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله : سنصبر.
وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة) وهو قوله {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته.
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذر وعبدالله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء : أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين {أتصبرون} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ {أتصبرون} خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم.
ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} المؤمنون 111 .
التاسعة: قوله {وكان ربك بصيرا} أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي.
وقيل {أتصبرون} أي اصبروا.
مثل {فهل أنتم منتهون} المائدة 91، أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.

تفسير ابن كثير يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم، فإن اللّه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم على صدق ما جاءوا به من اللّه، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} الآية، وقوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}؟ أي اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي، ولهذا قال {أتصبرون وكان ربك بصيرا} أي بمن يستحق أن يوحي إليه، كما قال تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} ومن يستحق أن يهديه اللّه ومن لا يستحق ذلك، وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}؟ قال: يقول اللّه: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم، وفي صحيح مسلم: (يقول اللّه تعالى إني مبتليك ومبتل بك) ((أخرجه مسلم عن عياض بن حماد مرفوعاً))، وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خيَّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি