نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة النور آية 4
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

التفسير الميسر والذين يتهمون بالفاحشة أنفسًا عفيفة من النساء والرجال مِن دون أن يشهد معهم أربعة شهود عدول، فاجلدوهم بالسوط ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا، وأولئك هم الخارجون عن طاعة الله.

تفسير الجلالين
4 - (والذين يرمون المحصنات) العفيفات بالزنا (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) على زناهن برؤيتهم (فاجلدوهم) كل واحد منهم (ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة) في شيء (أبدا وأولئك هم الفاسقون) لإتيانهم كبيرة

تفسير القرطبي
فيه ست وعشرون مسألة: الأولى: هذه الآية نزلت في القاذفين.
قال سعيد بن جبير : كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وقيل : بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة.
وقال ابن المنذر : لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية: قوله {والذين يرمون}يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة : وجرح اللسان كجرح اليد وقال آخر : رماني بأمر كنت منه ووالدي ** بريئا ومن أجل الطوي رماني ويسمى قذفا ومنه الحديث : إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء؛ أي رماها.
الثالثة: ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس.
وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك.
وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع.
وحكى الزهراوي أن المعنى : والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله {والمحصنات من النساء}[النساء: 24].
وقال قوم : أراد بالمحصنات الفروج كما قال {والتي أحصنت فرجها} [الأنبياء: 91]فيدخل فيه فروج الرجال والنساء.
وقيل : إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته؛ والله أعلم.
وقرأ الجمهور {المحصنات}بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب.
والمحصنات العفائف في هذا الموضع.
وقد مضى في - النساء -ذكر الإحصان ومراتبه.
والحمد لله.
الرابعة: للقذف شروط عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما.
وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي.
وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا.
وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة: اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك : هو قذف.
وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف.
والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب {إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في -هود-.
وقال تعالى في أبي جهل {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
وقال حكاية عن مريم{يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 28]؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} [النساء:156] ، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد.
وقال {قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}[سبأ: 24]؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه.
وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال : دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون.
ولما سمع قول النجاشي : قبيلته لا يغدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل قال : ليت الخطاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير.
السادسة: الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم.
وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.
وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد.
قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك.
وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافا.
السابعة: والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى.
وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين.
وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حرا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعي.
احتج الجمهور بقول الله {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25].
وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه.
وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية.
وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى.
قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول.
الثامنة: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام : (من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) ""خرجه البخاري ومسلم"".
وفي بعض طرقه : (من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون) ""ذكره الدارقطن"".
قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم.
وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو.
التاسعة: قال مالك والشافعي : من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر.
قال مالك : ومن قذف أم الولد حد و روى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي.
وقال الحسن البصري : لا حد عليه.
العاشرة: واختلف العلماء فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم : عليه الحد لأنه تعريض.
وقال أشهب : لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.
الحادية عشرة : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر.
قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد.
قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع : يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه.
قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك.
قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى.
قال أبو عبيد : في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال : إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك.
فقالت : ردوني إلى أهلي غيرى نغرة.
قال أبو عبيد : في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد؛ ألا تسمع قوله : وإن كنت كاذبة جلدناك.
ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول : وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت : اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي.
قال أبو عبيد : قال الأصمعي سألني شعبة عن قول : غيرى نغرة؛ فقلت له : هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه : نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت.
فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد.
قال : ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة: من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين؛ قاله مسروق.
قاله ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله {والذين يرمون المحصنات}الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم.
وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة: قوله تعالى:{ثم لم يأتوا بأربعة شهداء}الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمة بعباده وسترا لهم.
وقد تقدم في سورة - النساء - الرابعة عشرة: من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة.
وقال عبدالملك : تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين.
فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد؛ وبه قال ابن الحسن.
ورأى عبدالملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء}وقوله {فإذ لم يأتوا بالشهداء}[النور:13]ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة: فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن.
وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا.
وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون.
السادسة عشرة: فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين.
وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد.
وقال الحسن البصري : يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية.
وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة: واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؛ الأول - قول أبي حنيفة.
والثاني : قول مالك والشافعي.
والثالث : قاله بعض المتأخرين.
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى.
وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
الثامنة عشرة: قوله تعالى {بأربعة شهداء}قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء.
وقرأ عبدالله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بأربعة}التنوين {شهداء}.
وفيه أربعة أوجه : يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا.
ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع.
وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر.
وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور.
قال النحاس : ويجوز أن يكون {شهداء}في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة: حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في - النساء - في نص الحديث.
وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك.
وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي : عبدالله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين: قوله {فاجلدوهم}الجلد الضرب.
والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره.
ومنه قول قيس بن الخطيم : أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ** كأن يدي بالسيف محراق لاعب {ثمانين}نصب على المصدر.
{جلدة}تمييز.
{ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا}هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرون: قوله {إلا الذين تابوا}في موضع نصب على الاستثناء.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل.
المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فإن الله غفور رحيم}.
فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه.
فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي.
وعامل في فسقه بإجماع.
واختلف الناس في عمله في رد الشهادة؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة : لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى.
وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال.
وقال الجمهور : الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء.
ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه.
وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة : من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته.
وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة.
وقالت فرقة - منها مالك رحمه الله تعالى وغيره - : توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير.
ويروى عن الشعبي أنه قال : الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل {وإني لغفار لمن تاب}[طه :82] الآية.
الثانيةوالعشرون: اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجشون : بنفس قذفه.
وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته.
وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي : شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.
الثالثة والعشرون: واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه الله تعالى : تجوز في كل شيء مطلقا؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبدالحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة.
وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون.
و روى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله.
قال سحنون : من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه.
وقال مطرف وابن الماجشون : من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا؛ وروياه عن مالك.
واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون: الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما.
وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان : أحدهما : هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو.
السبب الثاني : يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه.
والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف.
ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين.
قال علماؤنا : وهذا نظر كلي أصولي.
ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال : الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له.
وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى؛ والله أعلم.
قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال : وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33] إلى قوله {إلا الذين تابوا} [المائدة: 34] .
ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج : وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته.
قال : وقوله {أبدا}أي ما دام قاذفا؛ كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا؛ فإن معناه ما دام كافرا.
وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة : يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله {وأولئك هم الفاسقون}تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم.
ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار.
ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر : لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان.
الخامسة والعشرون: قال القشيري : ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال الله {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا}.
وعند هذا قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين حد؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت : هكذا قال ولا خلاف.
وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته.
وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي : ترد شهادته وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون: قوله {وأصلحوا}يريد إظهار التوبة.
وقيل : وأصلحوا العمل.
{فإن الله غفور رحيم}حيث تابوا وقبل توبتهم.
.

تفسير ابن كثير هذه الآية الكريمة فيها بيان جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء، فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد، ولهذا قال تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة، الثاني أن ترد شهادته أبداً، الثالث أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند اللّه ولا عند الناس؛ ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} الآية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء؛ هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك، بلا خلاف. فذهب مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق نقل هذا عن سعيد بن المسيب سيد التابعين وجماعة من السلف أيضاً ، وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبداً وبه قال شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وغيرهم رضي اللّه عنهم وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يتعرف على نفسه أنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته، واللّه أعلم.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি