نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة البقرة آية 180
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

التفسير الميسر فرض الله عليكم إذا حضر أحدكم علامات الموت ومقدماته -إن ترك مالا- الوصية بجزء من ماله للوالدين والأقربين مع مراعاة العدل؛ فلا يدع الفقير ويوصي للغني، ولا يتجاوز الثلث، وذلك حق ثابت يعمل به أهل التقوى الذين يخافون الله. وكان هذا قبل نزول آيات المواريث التي حدَّد الله فيها نصيب كل وارث.

تفسير الجلالين
180 - (كُتب) فرض (عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ) أي أسبابه (إن ترك خيراً) مالا (الوصيَّة) مرفوع بكتب ومتعلق بإذا إن كانت ظرفية ودال على جوابها إن كانت شرطية وجواب إن أي فليوص (للوالدين والأقربين بالمعروف) بالعدل بأن لا يزيد على الثلث ولا يفضل الغني (حقاً) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله (على المتقين) الله. وهذا منسوخ بآية الميراث وبحديث: "لا وصية لوارث" رواه الترمذي

تفسير القرطبي
فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى{كتب عليكم} هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي [النساء] {من بعد وصية} [النساء : 12] وفي [المائدة] {حين الوصية}[المائدة : 106] والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه.
وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو.
ومثله في بعض الأقوال {لا يصلاها إلا الأشقى.
الذي كذب وتولى} [الليل: 15 ،16] أي والذي، فحذف.
وقيل : لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف.
و{كتب} معناه فرض وأثبت، كما تقدم.
وحضور الموت : أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم : يا أيها الراكب المزجي مطيته ** سائل بني أسد ما هذه الصوت وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ** قولا يبرئكم إني أنا الموت وقال عنترة : وإن الموت طوع يدي إذا ما ** وصلت بنانها بالهندوان وقال جرير في مهاجاة الفرزدق : أنا الموت الذي حدثت عنه ** فليس لهارب مني نجاء الثانية: إن قيل : لم قال { كتب } ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له : إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء.
وقيل : لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب : حضر القاضي اليوم امرأة.
وقد حكى سيبويه : قام امرأة.
ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل.
الثالثة: قوله تعالى{إن ترك خيرا} {إن} شرط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش : التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر : من يفعل الحسنات اللّه يشكرها ** والشر بالشر عند اللّه مثلان والجواب الأخر : أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا.
فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية.
ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل {الوصية} في {إذا} لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة.
ويجوز أن يكون العامل في {إذا} {كتب} والمعنى : توجه إيجاب اللّه إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل.
ويجوز أن يكون العامل في {إذا} الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى : كتب عليكم الإيصاء إذا.
الرابعة: قوله تعالى{خيرا} الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل : المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل.
قتادة عن الحسن : الخير ألف دينار فما فوقها.
الشعبي : ما بين خمسمائة دينار إلى ألف.
والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت.
وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية.
والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا.
وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل.
وأرض واصية : متصلة النبات.
وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك.
والاسم الوصاية والوصاية بالكسر والفتح وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة.
وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا.
وفي الحديث : (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم).
ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.
الخامسة: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون.
وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصي أو فقيرا.
وقالت طائفة : الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهري وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا.
وقال أبو ثور : ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه.
فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء.
قال ابن المنذر : وهذا حسن، لأن اللّه فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي.
احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) وفي رواية (يبيت ثلاث ليال) وفيها قال عبدالله بن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
احتج من لم يوجبها بأن قال : لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور.
وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه.
فإن قيل : فقد قال اللّه تعالى {كتب عليكم} وكتب فرض، فدل على وجوب الوصية قيل لهم : قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى : إذا أردتم الوصية، واللّه أعلم.
وقال النخعي : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه.
السادسة: لم يبين اللّه تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال{إن ترك خيرا} والخير المال، كقوله{وما تنفقوا من خير} [البقرة : 272]، {وإنه لحب الخير}[العاديات : 8] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه أوصى بالخمس.
وقال علي رضي اللّه عنه من غنائم المسلمين بالخمس.
وقال معمر عن قتادة.
أوصى عمر بالربع.
وذكره البخاري عن ابن عباس.
وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال : (لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أوصي بالثلث) واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان اللّه عليهم أجمعين.
روى بن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكةعن عائشة قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف.
قالت : فكم عيالك؟ قال أربعة.
قالت : (إن اللّه تعالى يقول{إن ترك خيرا} وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك) السابعة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا : إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بمال كله.
وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام : (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث، رواه الأئمة.
ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان : الثامنة: أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله.
وروي.
عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبدالله : (إني قد أردت أن أوصي، فقال له : أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبدالله : فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم.
) التاسعة: وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه اللّه : الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
قال أبو الفرج المالكي : المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لأنه أجل آت لا محالة.
وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : هو وصية، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا.
وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين.
وقالت طائفة : يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة.
وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان الثوري.
العاشرة: واختلفوا في الرجل يقول لعبده : أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك.
وإن قال : فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه.
وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك.
وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية، إلا أن الشافعي قال : لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة.
وليس قوله : - قد رجعت - رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته.
وقال في القديم : يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية.
واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه.
وقال أبو ثور : إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق.
واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال : عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم : هو وصية.
وقال أشهب : هو مدبر وإن لم يرد الوصية.
الحادية عشرة: اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة، فقيل : هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره الطبري.
وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر.
وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة.
وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض.
وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام : (إن اللّه قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث).
رواه أبو أمامة أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح.
فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على الصحيح من أقوال العلماء.
ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع.
والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم اللّه تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وقد تقدم هذا المعنى.
ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث.
فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين.
واللّه أعلم.
وقال ابن عباس والحسن : نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة [النساء] وثبتت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم.
وفي البخاري عن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد : الآية منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه اللّه، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي.
وقال الربيع بن خثيم : لا وصية.
قال عروة بن ثابت : قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال : 75].
ونحو هذا صنع ابن عمر رضي اللّه عنه.
الثانية عشرة: قوله تعالى{والأقربين} الأقربون جمع أقرب.
قال قوم : الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص اللّه تعالى عليهم، حتى قال الضحاك : إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف.
وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت.
وروي عن سالم بن عبدالله بمثل ذلك.
وقال الحسن : إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي : لم يكن له ذلك ولا كرامة.
وقال طاوس : إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهوية.
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل : من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر.
وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو وقول ابن عمر وابن عباس.
قلت : القول الأول أحسن، وأما أبو العالية رضي اللّه عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى.
وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، واللّه أعلم.
الثالثةعشرة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر فقالوا : لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم.
قال سعد : عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول اللّه، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال : (لا)، قلت : أفأتصدق بشطره؟ قال : (لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث.
ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة.
وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة، وهو الصحيح، لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم.
وروى الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة).
وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة) الرابعةعشرة: واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه.
هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي.
وقالت طائفة : لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا.
هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر.
وفرق مالك فقال : إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق.
احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز.
وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ههنا.
واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء.
واحتج مالك بأن قال : إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات.
الخامسة عشرة: فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ، قال الأبهري.
وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهوية أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره.
قال ابن المنذر : واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم.
السادسة عشرة: واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته : إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل اللّه، فلم يجيزوه.
فقال مالك : إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم.
وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبدالرزاق يمضي في سبيل اللّه.
السابعة عشرة: لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به.
وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز وصية الصبي.
وقال المزني : وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه.
واختلف أصحابه على قولين : أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة.
وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته.
قال أبو عمر : قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة.
ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي اللّه عنه.
وقال مالك : إنه الأمر المجمع عليه عندهم بالمدينة، وباللّه التوفيق.
وقال محمد بن شريح : من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فاللّه قضاه على لسانه ليس للحق مدفع.
الثامنة عشرة: قوله تعالى{بالمعروف} يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى اللّه سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام، فقال عليه السلام : (الثلث والثلث كثير)، وقد تقدم ما للعلماء في هذا.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة).
أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وقال الحسن : لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة : 49] وحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل اللّه.
فمن تجاوز ما حده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عالما.
وقال الشافعي : وقوله (الثلث كثير) يريد أنه غير قليل.
التاسعة عشرة: قوله تعالى{حقا على المتقين } يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله{ على المتقين } وهذا يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص اللّه من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى.
وانتصب {حقا} على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن {حق} بمعنى ذلك حق.
الموفية عشرين: قال العلماء : المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية.
وإنما هي من حديث ابن عمر.
وفائدتها : المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه.
الحادية والعشرون: روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : كانوا يكتبون في صدور وصاياهم (هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور.
وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى اللّه حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا اللّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب : يا بني إن اللّه أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون).

تفسير ابن كثير اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجباً قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من اللّه، يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل مِنَّة الموصي، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ ‏"‏رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة‏"‏ وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ نسختها هذه الآية‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏ والعجب من الرازي كيف حكى عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه‏:‏ كتب عليكم ما أوصى اللّه به من توريث الوالدين والأقربين من قوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏، قال‏:‏ وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، قال‏:‏ ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية، لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم‏:‏ إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت، فأما من يقول‏:‏ إنها كانت واجبة، وهو الظاهر من سياق الآية، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين‏. ‏ فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏ بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناساً بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما حق امرىْ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما‏"‏ قال ابن عمر‏:‏ ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ أي مالاً، قاله ابن عباس ومجاهد‏. ‏ ثم منهم من قال‏:‏ الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر، ومنهم من قال‏:‏ إنما يوصي إذا ترك مالاً كثيرا‏. ‏ قيل لعلي رضي اللّه عنه‏:‏ إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص، قال‏:‏ ليس بشيء، إنما قال اللّه ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ إذا تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك‏. ‏ وقال ابن عباس‏:‏ من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً‏. ‏ وقال قتادة‏:‏ كان يقال ألفاً فما فوقها، وقوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بالرفق والإحسان، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالشطر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قال‏:‏ فبالثلث‏؟‏ قال‏:‏ ‏)‏الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس‏)‏‏. ‏ وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال‏:‏ لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ (‏الثلث، والثلث كثير‏)‏‏. ‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم‏}‏، يقول تعالى‏:‏ فمن بدل الوصية وحرَّفها فغيَّر حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى ‏{‏فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وقع أجر الميت على اللّه، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك‏. ‏ ‏{‏إن الله سميع عليم‏}‏ أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصَى إليهم‏. ‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موص جنفا أو إثما‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الجنف‏:‏ الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به، جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، واللّه أعلم‏. ‏ وفي الحديث‏:‏ (‏الجنف في الوصية من الكبائر‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه مرفوعاً، قال ابن كثير‏:‏ وفي رفعه نظر‏"‏وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏: ‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة‏)‏ قال أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم ‏{‏تلك حدود اللّه فلا تعتدوها‏}‏ الآية‏. ‏‏"‏أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا‏"‏‏.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি