نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة التوبة آية 107
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

التفسير الميسر والمنافقون الذين بنوا مسجدًا؛ مضارة للمؤمنين وكفرًا بالله وتفريقًا بين المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم ويترك مسجد (قباء) الذي يصلي فيه المسلمون، فيختلف المسلمون ويتفرقوا بسبب ذلك، وانتظارا لمن حارب الله ورسوله من قبل -وهو أبو عامر الراهب الفاسق- ليكون مكانًا للكيد للمسلمين، وليحلفنَّ هؤلاء المنافقون أنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخير والرفق بالمسلمين والتوسعة على الضعفاء العاجزين عن السير إلى مسجد (قباء)، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما يحلفون عليه. وقد هُدِم المسجد وأُحرِق.

تفسير الجلالين
107 - (و) منهم (الذين اتخذوا مسجداً) وهم اثنا عشر من المنافقين (ضراراً) مضارة لأهل مسجد قباء (وكفراً) لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الراهب ليكون معقلاً له يقدم فيه من يأتي من عنده وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر لقتال النبي صلى الله عليه وسلم (وتفريقاً بين المؤمنين) الذين يصلون بقباء بصلاة بعضهم في مسجدهم (وإرصاداً) ترقباً (لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي قبل بنائه وهو أبو عامر المذكور (وليحلفن إن) ما (أردنا) ببنائه (إلا) الفعلة (الحسنى) من الرفق بالمسكين في المطر والحر والتوسعة على المسلمين (والله يشهد إنهم لكاذبون) في ذلك ، وكانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أي يصلي فيه فنزل

تفسير القرطبي
فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا} معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة.
ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم {يعذبون} أو نحوه.
ومن قرأ {الذين} بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر {لا تقم} التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي.
وقال النحاس : يكون خبر الابتداء {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} [التوبة : 110].
وقيل : الخبر {يعذبون} كما تقدم.
ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير : إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه؛ فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال : (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه) فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف.
وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم.
قال أبو عمر بن عبدالبر : وفيه نظر؛ لأنه شهد بدرا.
وقال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال : أعنت فيه بسارية.
فقال : أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم.
الثانية: قوله تعالى: {ضرارا} مصدر مفعول من أجله.
{وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا} عطف كله.
وقال أهل التأويل : ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله.
وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه).
قال بعض العلماء : الضرر : الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة.
والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة.
وقد قيل : هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد.
الثالثة: قال علماؤنا : لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ.
وكذلك قالوا.
لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه.
وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه.
وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له : إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال : لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار.
قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه.
وقال النقاش : يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر.
قلت : هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا.
وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة.
وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل.
وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
الرابعة: قال العلماء : إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال : لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الخامسة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال : (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم.
وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير.
وضابط هذا الباب : أن من أدخل على أخيه ضررا منع.
فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول.
مثال ذلك : رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله.
قال أصحاب الشافعي : لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك.
ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه.
والقرآن والسنة يردان هذا القول.
وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه.
وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة.
وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
السادسة: ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أو دنا منها يشتد ذلك بها.
فقال مالك : لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
السابعة: قوله تعالى: {وكفرا} لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي.
وقيل: {وكفرا} أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره.
الثامنة: قوله تعالى: {وتفريقا بين المؤمنين} أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
التاسعة: تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال : لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء.
وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول : من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم.
قال ابن العربي : وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
العاشرة: قوله تعالى: {وإرصادا لمن حارب الله ورسوله} يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين.
فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال : استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار.
وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة.
والإرصاد : الانتظار؛ تقول : أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به.
قال أبو زيد : يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر.
وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت.
وقوله تعالى: {من قبل} أي من قبل بناء مسجد الضرار.
{وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة.
وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى}.
{والله يشهد إنهم لكاذبون} أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.

تفسير ابن كثير سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم اللّه يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش، يمالئهم على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم اللّه عزَّ وجلَّ، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه صلوات اللّه وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللّه، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: واللّه قد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد دعاه إلى اللّه قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة. وذلك لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فوعده ومنَّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه اللّه من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه)، فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {لا تقم فيه أبدا} الآية. وقوله تعالى: {وليحلفن}: أي الذين بنوه، {إن أردنا إلا الحسنى} أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال تعالى: {واللّه يشهد إنهم لكاذبون} أي فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً باللّه وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق لعنه اللّه. وقوله: {لا تقم فيه أبدا} نهي له صلى اللّه عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن تقوم فيه: أي يصلي أبداً، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه على التقوى، وهي طاعة اللّه وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين وموئلاً للإسلام وأهله، ولهذا قال تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (صلاة في مسجد قباء كعمرة)، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً، وفي الحديث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة واللّه أعلم. قال الإمام أحمد، عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: (إن اللّه تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟) فقالوا: واللّه يا رسول اللّه ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري وسعيد بن حبان وقتادة وغيرهم . وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي في جوف المدنية هو المسجد الذي أسس على التقوى؛ وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن سهل بن سعد الساعدي قال: اختلف رجلان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، أحدهما قال: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فسألاه فقال: (هو مسجدي هذا) وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هو مسجدي هذا) ""رواهما الإمام أحمد رضي اللّه عنه"". وقال الإمام أحمد، عن أبي سعيد عن أبيه أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هو مسجدي) ""رواه أحمد والترمذي والنسائي"". طريق آخر : قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن أنيس بن يحيى، حدثني أبي، قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألاه عن ذلك، فقال: (هو هذا المسجد)، لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وقد قال: بأنه مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم جماعة من السلف والخلف، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير، وقوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}، دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة اللّه وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الإمام أحمد: عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فأوهم، فلما انصرف قال: (إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا، فليحسن الوضوء)، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها، وقال أبو العالية في قوله تعالى: {واللّه يحب المطهرين} إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب، وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك.

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি