نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة البقرة آية 127
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

التفسير الميسر واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يدعوان الله في خشوع: ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا، إنك أنت السميع لأقوال عبادك، العليم بأحوالهم.

تفسير الجلالين
127- (و) اذكر (إذ يرفع إبراهيم القواعد) الأسس أو الجدر (من البيت) يبنيه ، متعلق بيرفع (وإسماعيل) عطف على إبراهيم ، يقولان (ربنا تقبل منا) بناءنا (إنك أنت السميع) للقول (العليم) بالفعل

تفسير القرطبي
قوله تعالى{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} القواعد : أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء.
وقال الكسائي : هي الجدر.
والمعروف أنها الأساس.
وفي الحديث : (إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام) فقال ابن الزبير : هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام.
وقيل : إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها.
ابن عباس : وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته.
والقواعد واحدتها قاعدة.
والقواعد من النساء واحدها قاعد.
واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل : الملائكة.
روي عن جعفر بن محمد قال : سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال : إن الله عز وجل لما قال{إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة :30] قالت الملائكة{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة : 30] فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم : ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت.
وذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم : إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء.
قال عطاء : فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضه من حراء.
قال الخليل : والربض ههنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة : ربض.
وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال : لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له : يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا.
وقد روي في بعض الأخبار : أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت.
وهذا من طريق وهب بن منبه.
وفي رواية : أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعى البيت المعمور.
روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له، وقال : يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له : ابن بقدره، وتحرى أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه.
وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الأخبار.
فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام.
قال ابن جريج وقال ناس : أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس : يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس : إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم : ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه : يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال : ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال : يا أبة، من جاءك بهذا الحجر؟ فقال : من لم يكلني إليك.
ابن عباس : صاح أبو قبيس : يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت : أن ارفعا على تربيعي.
فهذا بناء إبراهيم عليه السلام.
وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت.
روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبدالوهاب بن همام أخو عبدالرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشاً كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه : (إني معطيكما كنزا ادخرته لكما) ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز.
فخرج إلى أجياد - وكانت وطنا - ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي الفرس عربيا لأن إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى.
و روى عبدالمنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال : أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام.
وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا : ربنا، لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا خواتا من السماء - والخوات : حفيف جناح الطير الضخم - فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي : يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد.
وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة.
ذكره عبدالرزاق عن معمر عن عبدالله بن عثمان عن أبي الطفيل.
وذكر عن معمر عن الزهري : حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق : وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه{أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن.
وعن أبي جعفر محمد بن علي قال : كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش.
خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال : (نعم) قلت : فلم لم يدخلوه [في البيت]؟ قال : (إن قومك قصرت بهم النفقة).
قلت : فما شأن بابه مرتفعا؟ قال : (فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض).
وخرج عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال : حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم : (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة).
وعن عروة عن [أبيه عن] عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لولا حداثة [عهد] قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا).
وفي البخاري قال هشام بن عروة : يعني بابا.
وفي البخاري أيضا : (لجعلت لها خَلْقين) يعني بابين، فهذا بناء قريش.
ثم لما غزا أهل الشام عبدالله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف.
وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال : لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس : اهدموا، قال : فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب.
قال مجاهد : فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب.
قال : وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترؤوا على ذلك، قال : فهدموا.
فلما بناها جعل لها بابين : بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع.
قال مسلم في حديثه : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبدالملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه.
في رواية : قال عبدالملك : ما كنت أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبدالله : بلى، أنا سمعته منها، قال : سمعتها تقول ماذا؟ قال : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع).
في أخرى : قال عبدالملك : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.
فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الآثار.
وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس.
وذكر الواقدي : حدثنا معمر عن همام بن نبه سمع أبا هريرة يقول، : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تُبَّع الآخر.
قال ابن إسحاق : كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج.
قال العلماء : ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء، فإنه مهدى إليها، ولا ينقص منها شيء.
روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها.
وقال عطاء : كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه.
قوله تعالى{ربنا تقبل منا} المعنى : ويقولان {ربنا}، فحذف.
وكذلك هي في قراءة أبي وعبدالله بن مسعود{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا} وتفسير إسماعيل : اسمع يا الله، لأن {إيل} بالسريانية هو الله، وقد تقدم.
فقيل : إن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه.
ذكره الماوردي.
قوله تعالى{إنك أنت السميع العليم} اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.

تفسير ابن كثير قال الحسن البصري: قوله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل}: أمرهما اللّه أن يطهرهاه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا. قوله: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال مجاهد وعطاء وقتادة: {أن طهرا بيتي} أي بلا إله إلا اللّه، من الشرك، وأما قوله تعالى: {للطائفين} فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال: {للطائفين} يعني من أتاه من غربة {والعاكفين} المقيمين فيه. وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه وعن ابن عباس قال: إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وعن ثابت قال: قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون، قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون ""رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت"" قلت: وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى: {والركع السجود} فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. قال ابن جرير رحمه اللّه فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان اللّه تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به. قلت: وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى اللّه عليه وسلم الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه للّه وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار}؟ قال فكذلك قوله: {وعهدنا إلى إبرهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وملخص هذا الجواب أن اللّه تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} الآيات. وقد اختلف الفقهاء أيُّهمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه اللّه الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين، الذين كانوا يشركون باللّه عند بيته، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف به والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سواء العاكف فيه والباد} وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}. وتقدير الكلام إذن: {وعهدنا إلى إبرهيم} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً للّه معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى: {في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال}، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام: (إنما بنيت المساجد لما بنيت له)، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة وللّه الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؟ فقيل: الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها. وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين. وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن إبراهيم حرَّم بيت اللّه وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ""رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخر"") عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا أخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه) ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر ""رواه مسلم، وفي لفظٍ له (بركة مع بركة) ثم يعطيه أصغر من حضر من الولدان"". وفي الصحيحين عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي طلحة: (التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني)، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقبل حتى بدا له أحد قال: (هذا جبلٌ يحبنا ونحبه)، فلما أشرف على المدينة قال: (اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم)، وفي لفظ لهما: (اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم) زاد البخاري يعني: أهل المدينة. وعن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (اللهم اجعل بالمدينة ضِعفي ما جعلته بمكة من البركة) ""رواه البخاري ومسلم""وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين ""رواه مسلم"")، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى واللّه أعلم. وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن اللّه تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها)، فقال العباس: يا رسول اللّه إلا الإذخر فإنه لقّيْنهم ولبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر). وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعْته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: (إن مكة حرمها اللّه ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا: إنَّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب ""رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي"") فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة. فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلّغ عن اللّه حكمه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند اللّه قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكتوباً عند اللّه خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام: {ربنا وابعث فيه رسولا منهم} وقد أجاب اللّه دعاءه بما سبق في علمه وقدره. وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء اللّه وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل: {رب اجعل هذا بلداً آمنا} أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل اللّه ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا}، وقوله: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطف الناس من حولهم} إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح)، وقال في هذه السورة: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هناك لأنه - واللّه أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}. وقوله تعالى: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر، قال: ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب {قال ومن كفر} الآية هو قول اللّه تعالى. وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه اللّه قال: وقرأ آخرون: {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم. قال ابن عباس: (كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل اللّه ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير) ثم قرأ ابن عباس: {كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} ""أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة""، وهذا كقوله تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}، وكقوله تعالى: {نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}، وقوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها {إلى عذاب النار وبئس المصير} ومعناه أن اللّه تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}. وفي الصحيح: (إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ تعالى: {كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. وأما قوله تعالى: {وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} فهما في عمل صالح وهما يسألان اللّه تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين: الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ {يشكرون}. وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (فلذلك سعى الناس بينهما)، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقال: (صه) - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً). قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً للّه يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن اللّه لا يضيّع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأُم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس)، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشرِّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غَيَّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وتزوج منهم بأخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللّه ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على اللّه عزّ وجلّ، قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ولم يكن لهم يومئذ حبّ ولو كان لهم لدعا لهم فيه)، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبِّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن اللّه أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. ثم قال البخاري: حدثنا عبد اللّه بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأُم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللّه، قالت: رضيت باللّه. قال: فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فنى الماء. قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هل تحس أحداً؟ فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال: فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم : (لو تركته لكان الماء ظاهراً) قال: فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها. قال: فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة. قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال: فجاءهم فسلّم فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال: قولي له إذا جاء غيَّرْ عتبةَ بابك، فلما أخبرته قال: أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إني مطلع تركتي قال، فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم : (بركة بدعوة إبراهيم). قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم، فقال لأهله: إني مطلع تركتي فجأة فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً، فقال: أطع ربك عزّ وجلّ، قال: إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال: إذن أفعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} قال: حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم: إن اللّه بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أُمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عرشاً فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} إلى قوله: {لعلهم يشكرون} وقال عبد الرزاق عن مجاهد: خلق اللّه موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة. وقال البخاري رحمه اللّه قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القوعد من البيت وإسماعيل} الآية: القواعد أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة، عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟) فقلت: يا رسول اللّه ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: (لولا حدثان قومك بالكفر)، فقال عبد اللّه بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللّه ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر). ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس سنين وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات اللّه وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت احْزأَلَّتْ: ارتفعت واستعدت للوثوب وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث اللّه إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنّا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا اللّه الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب خال والد النبي، وكان شريفاً ممدوحاً بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ابن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي اللّه ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله. فهدم، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس. قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي ابن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا (لَعَقَة الدم) فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أُمية بن المغيرة - وكان عامئذ أسنَّ قريش كلهم - قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه ففعلوا، فكان أول داخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا . . . هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى اللّه عليه وسلم : (هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي به، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى اللّه عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين. قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكان تكسي القباطي، ثم كسيت بعدُ البرود، وأول من كساها الديباج الحجّاج بن يوسف قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد اللّه بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أُم المؤمنين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجّاج، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم عن عطاء: (لمَّا احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهَى منها؟ قال ابن عباس: إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهَى منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدِّده فكيف بيت ربكم عزّ وجلّ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري. فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة. فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي اللّه عنها تقول: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه)، قال: فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس. قال: فزاد خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قُتِل ابن الزبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل المكة. فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه) ""رواه مسلم والنسائي عن عطاء، واللفظُ لمسلم"". وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: وددنا أنا تركناه وما تولى. فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير، فلو ترك لكان جيداً. ولكنْ بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة اللّه ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها!! فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. ولا تزال - واللّه أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السُّويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة). وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً) وعن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو ابن العاص رضي اللّه عنهما قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله) ""رواه أحمد. والفَدْع: زيغٌ بين القدم وعظم الساق"" وهذا - واللّه أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج). وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} قال اللّه: قد فعلت {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} قال اللّه: قد فعلت. وقال السدي: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال اللّه تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}. قلت وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} الآية. والمراد بذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم}، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللّه تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}. وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة اللّه تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له. ولهذا لما قال اللّه تعالى لإبراهيم عليه السلام: {إني جاعلك للناس إماما} قال: {ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}، وهو قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). {وأرنا مناسكنا} قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: {أرنا مناسكنا} مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: (إن إبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى فقال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً فقال: هذا المشعر، ثم أتى به عرفة فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟) ""أخرجه الطيالسي عن ابن عباس".

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি