لواجب على القاضي

فخرجا من عنده ومرا بسليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه.
فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بما هو أرفق بالفريقين.
فبلغ ذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرقه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه.
فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك.
الواجب على القاضي:
وعلى القاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء (1) :
1 - في الدخول عليه
2 - والجلوس بين يديه
3 - والاقبال عليهما
4 - والاستماع لهما
5 - والحكم عليهما والمطلوب منه التسوية بينهما في الافعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته

(1) نقل الرازي عن الشافعي

على الاخر فلا شئ عليه، لانه لا يمكنه التحرز عنه.
ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته، لان ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعى عليه الانكار والاقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أولا يشهدوا، ولا أن يضيف أحد الخصمين دون الاخر، لان ذلك يكسر قلب الاخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه، ولا يقبل الهدية من أحد إلا إذا كانت ممن جرت عادته بأن يهديه قبل تولي منصب القضاء، فإن الهدية إلى القاضي ممن لم تجر عادته بإهدائه تعتبر من الرشوة.
عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول " (1) .
وقال عليه الصلاة والسلام: " لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم " (2) .

(1) رواه أبو داود.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه

قال الخطابي: وانما يلحقهما العقوبة معا إذا استويا في القصد
والارادة، فرشا المعطي لينال به باطلا ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلما فإنه غير داخل في هذا الوعيد.
روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.
وروي عن الحسن والشعبي وجابربن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وكذلك الاخذ انما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه أداؤه، فلا يفعل ذلك حتى يرشى.
أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشى. ا. هـ
قال في فتح العلام: " وحاصل ما يأخذه القضاة من الاموال على أربعة أقسام: رشوة، وهدية، وأجرة، ورزق.

فالاول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الاخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي.
لانها لاستيفاء حقه، فهي كجعل الابق وأجرة الوكالة على الخصومة.
وقيل: تحرم لانها توقع الحاكم في الاثم.
وأما الهدية وهي الثاني: فإن كان ممن يهاديه قبل الولاية فلا يحرم استدامتها.
وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية: فان كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده، جازت وكرهت.
وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي.
وأما الاجرة وهي الثالث: فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق منه حرمت بالاتفاق، لانه إنما أجري له الرزق لاجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للاجرة.
وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الاجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه.
لانه إنما يعطى الاجرة لكونه عمل عملالا لاجل كونه حاكما.
فأخذه لما زاد على أجر مثله غير حاكم إنما أخذها لافي مقابلة شئ بل في مقابلة كونه حاكما.