جريمة إهدار الحقوق

وأعظم ما فيها أنها سبقت جميع المذاهب التي تحدثت عن حقوق الانسان، وأن الاسلام جعل هذه التعاليم دينا يتقرب به إلى الله.
كما يتقرب بالصلاة وغيرها من العبادات.
جريمة إهدار الحقوق:
إن هده الحقوق هي التي تمنح الانسان الانطلاق إلى الافاق الواسعة ليبلغ كماله، ويحصل على ارتقائه المقدر له، سواء أكان ماديا أم أدبيا.
ومن ثم، فإن أي تفويت أو تنقيص لحق من حقوق الانسان يعتبر جريمة من الجرائم، وهذا نفسه هو السبب الحقيقي في منع الاسلام للحرب أيا كان نوعها، لان الحرب بجانب كونها اعتداء على الحياة - وهي حق مقدس - فهي تدمير لما تصلح به الحياة.
وقد منع حرب التوسع، وبسط النفوذ، وسيادة القوي، فقال: " تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين ".
(1) ومنع حرب الانتقام والعدوان، فقال: " ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) " ومنع حرب التخريب والتدمير فقال: " ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها (3) ".

(1) سورة القصص: الاية 83.
(2) سورة المائدة: الاية 2.
(3) سورة الاعراف: الاية 56.

متى تشرع الحرب وإذا كانت القاعدة هي السلام، والحرب هي الاستثناء فلا مسوغ لهذه الحرب - في نظر الاسلام - مهما كانت الظروف، إلا في إحدى حالتين: (الحالة الاولى) حالة الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن عند الاعتداء.
يقول الله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم.
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".
(1) وعن سعد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد ".
رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويقول الله سبحانه: " ومالنا ألا تقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ".
(2) (الحالة الثانية) حالة الدفاع عن الدعوة إلى الله إذا وقف أحد في سبيلها. بتعذيب من آمن بها، أو بصد من أراد الدخول فيها، أو بمنع الداعي من تبليغها، ودليل ذلك: (أولا) أن الله سبحانه يقول: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين - فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم - وقاتلوهم حتى

(1) سورة البقرة: الاية 190.
(2) سورة البقرة: الاية 246.

لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " (1) وقد تضمنت هذه الايات ما يأتي:
1 - الامر بقتال الذين يبدءون بالعدوان ومقاتلة المعتدين، لكف عدوانهم.
والمقاتلة دفاعا عن النفس أمر مشروع في كل الشرائع، وفي جميع المذاهب، وهذا واضح من قوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم "
2 - أما الذين لا يبدءون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم ابتداء، لان الله نهى عن الاعتداء، وحرم البغي والظلم في قوله: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".
3 - وتعليل النهي عن العدوان بأن الله لا يحب المعتدين دليل على أن هذا النهي محكم غير قابل للنسخ، لان هذا إخبار بعدم محبة الله للاعتداء والاخبار لا يدخله النسخ لان الاعتداء هو الظلم، والله لا يحب الظلم أبدا.
4 - أن لهذه الحرب المشروعة غاية تنتهي إليها، وهي منع فتنة المؤمنين والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حرياتهم ليمارسوا عبادة الله ويقيموا دينه، وهم آمنون على أنفسهم من كل عدوان.
(ثانيا) يقول الله سبحانه: " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ". (2) وقد بينت هذه الاية سببين من أسباب القتال:
(أولهما) القتال في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
(وثانيهما) القتال في سبيل المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا الهجرة، فعذبتهم قريش وفتنتهم حتى طلبوا من الله الخلاص،

(1) سورة البقرة: الايات 190، 191، 192، 193.
(2) سورة النساء: الاية 75.

فهؤلاء لا غنى لهم عن الحماية التي تدفع عنهم أذى الظالمين، وتمكنهم من الحرية، فيما يدينون ويعتقدون.
(ثالثا) يقول الله سبحانه: " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ". (1) فهؤلاء القوم الذين لم يقاتلوا قومهم، ولم يقاتلوا المسلمين واعتزلوا محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالا حقيقيا يريدون به السلام، فهؤلاء لا سبيل للمؤمنين عليهم.
(رابعا) أن الله تعالى يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - وإن يريدوا أن يخدعوكم فإن حسبك الله ". (2) ففي هذه الآية الامر بالجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليها، حتى ولو كان جنوحه خداعا ومكرا.
(خامسا) أن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلها دفاعا، ليس فيها شئ من العدوان.
وقتال المشركين من العرب، ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جاريا
على هذه القاعدة.
وهذا بين في قوله تعالى: " ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين - قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء الله عليم حكيم (3) ".
ولما تجمعوا جميعا ورموا المسلمين عن قوس واحدة، أمر الله بقتالهم جميعا يقول الله سبحانه: " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم

(1) سورة النساء: الآية 90.
(2) سورة الانفال: الآيتان 61، 62.
(3) سورة التوبة: الآيات 13، 14، 15.

كافة، واعلموا أن الله مع المتقين ".
(1) وأما قتال اليهود، فإنهم كانوا قد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، ثم لم يلبثوا أن نقضوا العهد وانضموا إلى المشركين والمنافقين ضد المسلمين، ووقفوا محاربين لهم في غزوة الاحزاب، فأنزل الله سبحانه: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ".
(2) وقال أيضا: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين " (3)
(سادسا) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة، فقال: " ما كانت هذه لتقاتل ".
فعلم من هذا أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل مع المقاتلين، فكانت مقاتلتهم لنا هي سبب مقاتلتنا لهم، ولم يكن الكفر هو السبب.
(سابعا) أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الرهبان والصبيان، لنفس السبب الذي نهى من أجله عن قتل المرأة.
(ثامنا) أن الاسلام لم يجعل الاكراه وسيلة من وسائل الدخول في الدين، بل جعل وسيلة ذلك استعمال العقل وإعمال الفكر، والنظر في ملكوت السموات والارض.
يقول الله سبحانه: " ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون - قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ".
(4) وقال: " لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ". (5)

(1) سورة التوبة: الآية 36.
(2) سورة التوبة: الآية 29.
(3) سورة التوبة: الآية 123.
(4) سورة يونس: الآيات 99، 100، 101.
(5) سورة البقرة: الآية 256.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأسر الاسرى، ولم يعرف أنه أكره أحدا منهم على الاسلام. وكذلك كان أصحابه يفعلون.
روى أحمد عن أبي هريرة " أن ثمامة الحنفي أسر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو عليه فيقول: " ما عندك يا ثمامة؟..".
فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حسن إسلام أخيكم ".
أما النصارى وغيرهم فلم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.
حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الاسلام، فأرسل إلى قيصر، وإلى كسرى، وإلى المقوقس، وإلى النجاشي وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الاسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم.
فالنصارى حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما.
فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل الرسول سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم أمر عبد الله بن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى - بمؤتة من أرض الشام - واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الامراء رضي الله عنهم، وأخذ الراية خالد بن الوليد.
ومما تقدم يتبين بجلاء، أن الاسلام لم يأذن بالحرب إلا دفعا للعدوان، وحماية للدعوة، ومنعا للاضطهاد، وكفاية لحرية التدين، فإنها حينئذ تكون
فريضة من فرائض الدين، وواجبا من واجباته المقدسة ويطلق عليها اسم " الجهاد ".