ما لا ضمان فيه

" ما من إنسان يقتل عصفورا، فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله يوم القيامة عنها، قيل يا رسول الله: وما حقها؟ قال: يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويرمي بها ".
وإذا قتلها فعليه أن يتوب إلى الله، ولا ضمان عليه.
وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: " النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد ".
ما لا ضمان فيه:
إذا كانت الجناية بسبب من الظالم المعتدي، فهي هدر: أي لا قصاص فيها، ولادية لها.
ومن أمثلة ذلك: (1) سقوط أسنان العاض: فإذا عض الانسان غيره، فانتزع المعضوض ما عض منه من فم العاض، فسقطت أسنانه، أو انفكت لحيته، فإنه لا مسؤولية على الجاني، لانه غير متعد.
روى البخاري ومسلم، عن عمران بن حصين، أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فمه فسقطت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل (1) ..لادية لك ".
وقال مالك: يضمن، والحديث حجة عليه.
(2) النظر في بيت غيره بدون إذنه: ومن نظر في بيت إنسان، من ثقب أو شق باب، أو نحو ذلك، فإن لم يتعمد النظر فلا حرج عليه.

(1) الفحل: الذكر من الابل.

روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة؟ فقال: " اصرف بصرك ".
وروى أبو داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: " لاتتبع النظرة النظرة، فإن لك الاولى، وليست لك الثانية ".
فإن تعمد النظر بدون إذن من صاحب البيت فلصاحب البيت أن يفقأ عينه، ولاضمان عليه.
روى أحمد والنسائي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقأوا عينه فلادية له، ولا قصاص ".
وروى البخاري ومسلم عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (1) بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جناح ".
وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله مدرى يرجل بها رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعلم أنك تنظر، لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاذن من أجل النظر ".
وبهذا أخذت الشافعية والحنابلة.
وخالف فيه الاحناف والمالكية، فقالوا: من نظر بدون إذن من صاحب البيت، فرماه بحصاة، أو طعنه بخشبة، فأصاب منه، فهو ضامن، لان الرجل إذا دخل البيت ونظر فيه وباشر امرأة صاحبه فيما دون الفرج فإنه لا يجوز أن يفقأ عينه، أو يحدث به عاهة، لان ارتكاب مثل هذا الذنب لا يقابل بمثل هذه العقوبة، وهذا مخالف للاحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها.
وقد رجح الرأي الاول ابن قيم الجوزية فقال:

(1) الخذف، بالخاء: الرمي بالحصاة، وبالحاء: الرمي بالعصى، لا بالحصى.

" فردت هذه السنن بأنها خلاف الاصول، فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع، ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن تقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الاصول، فما خالفها فهو خلاف الاصول وقولكم: " إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين، فهذا حق في القصاص، وأما العضو الجاني المتعدي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه، فإن الآية
لا تتناوله نفيا ولا إثباتا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن، لا مخالفا لما حكم به القرآن.
وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالاسهل فالاسهل، إذ المقصود دفع ضرر حياله، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف، وأما هذا المتعدي بالنظر إلى المحرم، الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل.
فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه، ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء، وعدم مشاهدة غير الناظر إليه، فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه، ولو أمر بدفعه بالاسهل فالاسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى جريمه هدرا.
" والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لناوللجاني، ما جاءت به السنة التي لا معارض لها، ولا دافع لصحتها من خذف ما هنال ك، وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هناك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه، فهو الذي عرضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف ليس بظالم له.
والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة، فحكم الله بما شرعه على رسوله، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " اه.
(3) القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض: ومن قتل شخصا، أو حيوانا، دفاعا عن نفسه، أو عن نفس غيره، أو عن ماله، أو مال غيره، أو عن العرض، فإنه لاشئ عليه، لان دفع

الضرر عن النفس، والمال واجب، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله، ولاشئ على القاتل.
روى مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: " فلا تعطه مالك ".
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتله ".
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: " فأنت شهيد ".
قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: " هو في النار ".
قال ابن حزم: " فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص أو غيره، فإن تيسر له طرده منه ومنعه، فلا يحل له قتله، فإن قتله حينئذ فعليه القود، وإن توقع أقل توقع أن بعاجله اللص فليقتله، ولاشئ عليه، لانه مدافع عن نفسه ".
ادعاء القتل دفاعا إذا ادعى القاتل أنه قتل المجني عليه، دفاعا عن نفسه، أو عرضه، أو ماله، فإن أقام بينة على دعواه قبل قوله وسقط عنه القصاص والدية، وإن لم يقم البينة على دعواه، لم يقبل قوله، وأمره إلى ولي الدم: إن شاء عفا عنه وإن شاء اقتص منه، لان الاصل البراءة حتى تثبت الادانة.
وقد سئل الامام علي، رضي الله عنه، عمن وجد مع امرأته رجلا فقتلهما؟ فقال:
" إن لم يأت بأربعة شهداء (1) فليعط برمته ".

(1) وقيل: يكفى شاهدان. " برمته " أي مسلم إلى أولياء المقتول ليقعل.