على من تجب

وأما أبو حنيفة فإنه يرى أنه لادية في العمد، وإنما الواجب فيه ما اصطلح الطرفان عليه.
وما اصطلحوا عليه حال، غير مؤجل.
والدية المغلظة مائة من الابل في بطون أربعين منها أولادها.
لما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن قبة بن أوس،
عن رجل من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا إن قتل خطأ العمد بالسوط، والعصا، والحجر فيه دية مغلظة: مائة من الابل، منها أربعون من ثنية (1) إلى بازل عامها، كلهن خلفة ".
والتغليظ لا يعتبر إلا في الابل خاصة دون غيرها، لان الشارع ورد بذلك، وهذا سبيله التوقيف والسماع الذي لا مدخل للرأي فيه، لانه من بات المقدرات.
تغليظ الدية في الشهر الحرام والبلد الحرام وفي الجناية على القريب: ويرى الشافعي وغيره: أن الدية تغلظ في النفس والجراح بالجناية في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وفي الجناية على ذي الرحم المحرم، لان الشرع عظم هذه الحرمات، فتعظم الدية بعظم الجناية.
وروي عن عمر، والقاسم بن محمد، وابن شهاب: أن يزاد في الدية مثل ثلثها.
وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أن الدية لا تغلظ لهذه الاسباب، لانه لا دليل على التغليظ، إذ أن الديات يتوقف فيها على الشارع، والتغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصول الشرع.
على من تجب:
الدية الواجبة على القاتل نوعان:
1 - نوع يجب على الجاني في ماله (2) ، وهو القتل العمد، إذا سقط القصاص.

(1) الثنية من الابل: مادخل في السنة السادسة من عمره، والبازل: الذي دخل في التاسعة واكتمل قوته، ويقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين.
والخلفة: الحامل من النوق.
(2) سواء كان رجلا أم امرأة.

يقول ابن عباس: " لاتحمل العاقلة عمدا، ولا اعترافا، ولا صلحا في عمد ". ولا مخالف له من الصحابة.
وروى مالك عن ابن شهاب قال: " مضت السنة في العمد حين يعفوا أولياء المقتول أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة، إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس منها.
وإنما لا تعقل العاقلة واحدا من هذه الثلاثة: أي لا يعقل العمد، ولا الاقرار، ولا الصلح، لان العمد يوجب العقوبة، فلا يستحق التخفيف عنه بتحمل العاقلة عنه شيئا من الدية، ولا تعقل الاقرار لان الدية وجبت بالاقرار بالقتل لا بالقتل نفسه، والاقرار حجة قاصرة: أي أنه حجة في حق المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة.
ولا تعقل العاقلة الاقرار بالصلح، لان بدل الصلح لم يجب بالقتل، بل وجب بعقد الصلح، ولان الجاني يتحمل مسئولية جنايته، وبدل المتلف يجب على متلفه.
2 - ونوع يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إذا كانت له عاقلة بطريق التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل الخطأ (1) .
والقاتل كأحد أفراد العاقلة، لانه هو القاتل، فلا معنى لاخراجه.
وقال الشافعي: لا يحب على القاتل شئ من الدية لانه معذور.
والعاقلة: مأخوذ من العقل، لانها تعقل الدماء: أي تمسكها من أن تسفك: يقال عقل البعير عقلا: أي شده بالعقال.
ومنه العقل، لانه يمنع من التورط في القبائح.
والعاقلة هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال عقلت القتيل: أي أعطيت ديته، وعقلت عن القاتل.
أديت ما لزمه من الدية.
والعاقلة هم عصبة الرجل:
أي قرابته الذكور البالغون - من قبل الاب - (2) (1) وكذلك عمد الصغير والمجنون على عاقلتهما، وقال قتادة، وأبو ثور، وابن ابي دليلى، وابن شبرمة: دية شبه العمد في مال الجاني.
وهذا القول ضعيف.
(2) ويدخل فيهم الاب والابن عند مالك وأبي حنيفة وأظهر الروايتين عند أحمد.

الموسرون العقلاء، ويدخل فيهم: الاعمى، والزمن، والهرم، إن كانوا أغنياء لا يدخل في العاقلة: أنثى، ولا فقير، ولا صغير، ولا مجنون، ولا مخالف لدين الجاني، لان مبنى هذا الامر على النصرة، وهؤلاء ليسوا من أهلها.
وأصل وجوب الدية على العاقلة: ما ثبت من أن امرأتين من هزيل إقتتلتا، فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها.
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وكانت العاقلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة الجاني، وبقيت كذلك حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه، فلما نظم الجيوش، ودون الدواوين جعل العاقلة هم أهل الديوان، خلافا لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب السرخسي عن هذا الذي وضعه عمر.
فقال: " إن قيل: كيف يظن بالصحابة الاجماع على خلاف ما قضى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: هذا اجتماع على وفاق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار النصرة، وكانت قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته.
ثم لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين صارت القوة والنصرة للديوان، فقد كان المرء يقاتل قبيلته عن ديوانه " اه.
وإذا كان الاحناف قد ارتضوا هذا، فإن المالكية والشافعية قد رفضوه، لانه لانسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من حق أحد أن يغير ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدية التي تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين (1) باتفاق العلماء

(1) كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة، تأليفا للقلوب وإصلاحا لذات البين، فلما تمهد الاسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام. فإذا رأى الامام المصلحة في التعجيل كان له ذلك.

وأما التي تجب على القاتل في ماله، فإنها تكون حالة عند الشافعي رضي الله عنه، لان التأجيل للتخفيف عن العاقلة، فلا يلتحق به العمد المحض.
ويرى الاحناف أنها مؤجلة في ثلاث سنين، مثل دية قتل الخطأ.
وإيجاب دية قتل شبه العمد، والخطأ على العاقلة استثناء من القاعدة العامة في الاسلام.
وهي: أن الانسان مسؤول عن نفسه ومحاسب على تصرفاته، لقول الله عزوجل: " لاتزر وازرة وزر أخرى ".
ولقول الرسول الكريم: " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه ". رواه النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وإنما جعل الاسلام اشتراك العاقلة في تحمل الدية في هذه الحالة، من أجل مواساة الجاني، ومعاونته في جناية صدرت عنه من غير قصد منه.
وكان ذلك إقرارا لنظام عربي، اقتضاه ما كان بين القبائل من التعاون والتآزر والتناصر.
وفي ذلك حكمة بينة، وهي أن القبيلة إذا علمت أنها ستشارك في تحمل الدية، فإنها تعمل من جانبها على كف المنتسبين إليها عن ارتكاب الجرائم، وتوجههم إلى السلوك القويم الذي يجنبهم الوقوع في الخطأ.
ويرى جمهور الفقهاء أن العاقلة لاتحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني (1) .
ويرى مالك وأحمد رضي الله عنهما، أنه لا يجب على واحد من العصبة قدر معين من الدية، ويجتهد الحاكم في تحميل كل واحد منهم ما يسهل عليه، ويبدأ بالاقرب فالاقرب.
أما الشافعي رضي الله عنه، فيرى أنه يجب على الغني دينار، وعلى الفقير نصف دينار.
والدية عنده مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالاقرب من بني أبيه ثم بني جده، ثم من بني بني أبيه، قال: فإن لم يكن للقاتل عصبة نسبا

(1) وقال الشافعي رضي الله عنه: عقل الخطأ على العاقلة، قلت الجناية أو كثرت، لان من غرم الاكثر غرم الاقل، كما أن عقل العمد في مال الجاني: قل أو كثر.

ولا ولاء، فالدية في بيت المال. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا ولي من لا ولي له ". وكذلك إذا كان فقيرا وعاقلته فقيرة، لا تستطيع تحمل الدية، فإن بيت المال هو الذي يتحملها.
وإذا قتل المسلمون رجلا في المعركة - ظنا أنه كافر - ثم تبين أنه مسلم فإن ديته في بيت المال.
فقد روى الشافعي رضي الله عنه، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بدية اليمان - والد حذيفة - وكان قد قتله المسلمون يوم أحد، ولا يعرفونه، وكذلك من مات من الزحام تجب ديته في بيت المال، لانه مسلم مات بفعل قوم مسلمين، فتجب ديته في بيت المال.
روى مسدد: أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي كرم الله وجهه، من بيت مال المسلمين.
والمفهوم من كلام الاحناف أن الدية في هذه الازمان في مال الجاني، ففي كتاب " الدرر المختار ": " إن التناصر أصل هذا الباب، فمتى وجد وجدت العاقلة، وإلا فلا ".
وحيث لاقبيلة، ولا تناصر، فالدية في بيت المال فإن عدم بيت المال أو لم يكن منتظما فالدية في مال الجاني.
وقال ابن تيمية: " وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء ".
دية الاعضاء يوجد في الانسان من الاعضاء ما منه عضو واحد: كالانف، واللسان، والذكر.
ويوجد فيه ما منه عضوان: كالعينين، والاذنين، والشفتين، واللحيين واليدين، والرجلين، والخصيتين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل (1) ، والاليتين، وشفري المرأة.

(1) مثنى ثندوة، وهما للرجل كالثديين للمرأة.

ويوجد ما هو أكثر من ذلك.
فإذا أتلف إنسان من إنسان آخر هذا العضو الواحد أو هذين العضوين، وجبت الدية كاملة، وإذا أتلف أحد العضوين وجب نصف الدية.
فتجب الدية كاملة في الانف، لان منفعته في تجميع الروائح في قصبته، وارتفاعها إلى الدماغ، وذلك يفوت بقطع المارن.
وكذلك تجب الدية في قطع اللسان، لفوات النطق، الذي يتميز به الآدمي عن الحيوان الاعجم.
والنطق منفعة مقصودة يقوت بفواتها مصالح الانسان، من إفهام غيره أغراضه، والابانة عن مقاصده.
وكذلك تجب الدية بقطع بعضه، إذا عجز عن الكلام جملة لفوات المنفعة نفسها التي تفوت بقطعه كله.
فإذا عجز عن النطق ببعض الحروف، وقدر على بعض منها، فإن الدية تقسم على عدد الحروف.
وقد روي عن علي، كرم الله وجهه: أنه قسم الدية على الحروف، فما قدر عليه من الحروف أسقط بحسابه من الدية.
وما لم يقدر عليه ألزمه بحسابه منها.
وتجب الدية في قطع الذكر، ولو كان المقطوع منه الحشفة فقط، لان فيه منفعة الوطء، واستمساك البول.
وكذلك تجب الدية إذا ضرب الصلب فعجز عن المشي، وتجب الدية كاملة في العينين، وفي العين الواحدة نصفها، وفي الجفنين كما لها، وفي جفني إحدى العينين نصفها وفي واحدة منها ربعها، وفي الاذنين كمال الدية،
وفي الواحدة نصفها، وفي الشفتين كمال الدية، وفي الواحدة نصفها، يستوي فيهما العليا والسفلى.
وفي اليدين كمال الدية، وفي اليد الواحدة نصفها، وفي الرجلين كمال الدية، وفي الرجل الواحدة نصفها، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة، وفي كل أصبع عشر من الابل، والاصابع سواء، لا فرق بين خنصر وإبهام، وفي كل أنملة من أصابع اليدين أو الرجلين ثلث عشر الدية، في كل أصبع ثلاث مفاصل، والابهام فيه مفصلان، وفي كل مفصل منهما نصف عشر الدية، وفي الخصيتين كمال

الدية، وفي إحداهما نصفها، ومثل ذلك في الاليتين، وشفري المرأة وثدييها وثندوني الرجل ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصفها.
وفي الاسنان كمال الدية، وفي كل سن خمس من الابل، والاسنان سواء من غير ضرس وثنية.
وإذا أصيبت السن ففيها ديتها، وكذلك إن طرحت بعد أن تسود.
دية منافع الاعضاء وتجب الدية كاملة إذا ضرب إنسان إنسانا فذهب عقله، لان العقل هو الذي يميز الانسان عن الحيوان، وكذلك إذا ذهبت حاسة من حواسه: ك " سمعه، أو بصره، أوشمه، أو ذوقه، أو كلامه بجميع حروفه " لان في كل حاسة من هذه الحواس منفعة مقصودة، بها جماله وكمال حياته، وقد قضى عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلا، فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله، بأربع ديات والرجل حي.
وإذا ذهب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الاذنين، ففيه نصف الدية، سواء كانت الاخرى صحيحة أم غير صحيحة.
وفي حلمتي ثديي المرأة ديتها، وفي إحداهما نصفها.
وفي شفريها ديتها، وفي أحدهما نصفها.
وإذا فقئت عين الاعور الصحيحة، يجب فيها كمال الدية، قضى بذلك عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر.
ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، لان ذهاب عين الاعور ذهاب البصر كله، إذ أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين.
وفي كل واحد من الشعور الاربعة كمال الدية. وهي:
1 - شعر الرأس.
2 - شعر اللحية.
3 - شعر الحاجبين.
4 - أهداب العينين وفي الحاجب نصف الدية. وفي الهدب ربعها. وفي الشارب يترك فيه الامر لتقدير القاضي.

دية الشجاج
الشجاج: هو الاصابات التي تقع بالرأس والوجه.
وأنواعه عشرة، وهي كلها لا قصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا، لانه لا يمكن مراعاة المماثلة فيها والشجاج بيانه كما يأتي:
1 - الخارصة: وهي التي تشق الجلد قليلا.
2 - الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد.
3 - الدامية أو الدامغة: وهي التي تنزل الدم.
4 - المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم.
5 - السمحاق: وهي التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة.
6 - الموضحة: وهي التي تكشف عن العظم.
7 - الهاشمة: وهي التي تكسر العظم وتهشمه.
8 - المنقلة: وهي التي توضح وتهشم العظم حتى ينتقل منها العظام.
9 - المأمومة، أو الآمة: وهي التي تصل إلى جلدة الرأس.
10 - الجائفة: وهي التي تصل الجوف.
ويجب فيما دون الموضحة حكومة عدل، وقيل أجرة الطبيب، وأما الموضحة، ففيها القصاص إذا كانت عمدا كما قلنا، ونصف عشر الدية إذا كانت خطأ، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وهي خمس من الابل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم.
ولو كانت مواضح متفرقة، يجب في كل واحدة منها خمس من الابل.
والموضحة في غير الوجه والرأس توجب حكومة.
وفي الهاشمة عشر الدية، وهي عشر من الابل، وهو مروي عن زيد ابن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة.
وفي المنقلة عشر الدية، ونصف العشر: أي خمسة عشر من الابل.
وفي الآمة: ثلث الدية بالاجماع.