شروط وجوب القصاص

بقتله، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كانت النفس لهم جميعا، فلما عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أخذ حقه - يعني الذي لم يعف - حتى يأخذ حق غيره.
قال فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية في ماله، وترفع عنه حصة الذي عفا.
قال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك.
قال محمد: وأنا أرى ذلك.
وهو قول أبي حنيفة.
وإن كان في الورثة صغير فإنه ينتظر بلوغه، ليكون له الخيار، إذ أن القصاص حق لجميع الورثة.
ولا اختيار للصبي قبل بلوغه.
وإذا عفا الورثة جميعا أو أحدهم على الدية وجب على القاتل دية مغلظة، حالة في حاله كما سيأتي ذلك مفصلا في باب الديات.
شروط وجوب القصاص:
ولا يجب القصاص إلا إذا توفرت الشروط الآتية: 1 - أن يكون المقتول معصوم الدم.
فلو كان حربيا، أو زانيا محصنا، أو مرتدا، فإنه لا ضمان على القاتل،
لا بقصاص ولابدية، لان هؤلاء جميعا مهدور والدم.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم: يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
2 - أن يكون القاتل بالغا.
3 - أن يكون عاقلا.
فلا قصاص على صغير، ولا مجنون، ولا معتوه، لانهم غير مكلفين، وليس لهم قصد صحيح أو إرادة حرة.
فإذا كان المجنون يفيق أحيانا، فقتل وقت إفاقته، اقتص منه.
وكذلك من زال عقله بسكر وهو متعد في شربه.

فعن مالك أنه بلغه " أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان، يذكر أنه أتي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية: أن اقتله به ".
فإن كان شرب شيئا ظنه غير مسكر، فزال عقله فقتل في هذه الحال، فلا قصاص عليه.
وفي الحديث يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
" رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ ".
وقال مالك: " الامر المجمع عليه عندنا: أن لاقود بين الصبيان، وأن قتلهم خطأ ما لم تجب الحدود، ويبلغوا الحلم، وان قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ".
4 - أن يكون القاتل مختارا، فإن الاكراه يسلبه الارادة، ولا مسئولية على من فقد إرادته، فإذا أكره صاحب سلطان (1) غيره على القتل، فقتل آدميا بغير حق، فإنه يقتل الآمر دون المأمور. ويعاقب المأمور.
وبهذا أخذ أبو حنيفة، وداود، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال الاحناف: وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك، ولصاحب المال أن يضمن المكره.
وإن أكرهه بقتل على قتل غيره، لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما.
والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا.
وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر.
وهو القول الآخر للشافعي.
وقال قوم: منهم مالك والحنابلة: يقتلان جميعا، إن لم يعف ولي الدم، فإن عفا ولي الدم وجبت الدية، لان القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكره تسبب في القتل بما يفضي إليه غالبا.
وإذا أمر مكلف غير مكلف بأن يقتل غيره: مثل الصغير والمجنون.
فالقصاص على الآمر، لان المباشر للقتل آلة في يده، فلا يجب القصاص عليه، وإنما يجب على المتسبب.

(1) عند الحنابلة: أن قول القادر: أقتل وإلا قتلتك، إكراه.

وإذا أمر الحاكم بالقتل ظلما، فإما أن يكون المأمور عالما بأنه ظلم، أو لا يكون له علم به.
فإن كان عالما بأنه ظلم ونفذ أمره، وجب عليه القصاص، إلا أن يعفو الولي، فتجب الدية عليه، لانه مباشر للقتل مع علمه بأنه ظلم، فلا يعذر ولا يقال إنه مأمور من الحاكم، لان قاعدة الاسلام: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن لم يكن عالما بعدم استحقاقه القتل، فقتله، فالقصاص - إن لم يعف الولي، أو الدية - على الآمر بالقتل، دون المباشر، لانه معذور لوجوب طاعة الحاكم في غير معصية الله.
ومن دفع إلى غير مكلف آلة قتل، ولم يأمره به، فقتل، لم يلزم الدافع شئ.
5 - ألا يكون القاتل أصلا للمقتول، فلا يقتص من والد بقتل ولده، وولد ولده وإن سفل إذا قتله، بأي وجه من أوجه العمد، بخلاف ما إذا قتل الابن أحد أبويه فإنه يقتل اتفاقا، لان الوالد سبب في حياة ولده، فلا يكون ولده سببا في قتله وسلبه الحياة، بخلاف ما إذا قتل الولد أحد والديه فإنه يقتص منه لهما.
أخرج الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقتل الوالد بالولد ".
قال ابن عبد البر: " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، وهو عمل أهل المدينة، ومروي عن عمر ".
وروى يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة " حدف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له. فقال له عمر: " اعدد على " ماء قديد " عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر، أخذ من تلك الابل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة. ثم قال:

أين أخو المقتول؟ فقال هأنذا.
قال خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس لقاتل شئ ".
وخالف في ذلك الامام مالك، فرأى أنه يقاد الولد بالوالد، إذا أضجعه وذبحه، لان ذلك عمد حقيقة، لا يحتمل غيره، فإن الظاهر في استعمال الجارح في القتل هو العمد.
والعمدية أمر خفي، لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الاحوال، وأما إذا كان على غير هذه الصفة، فيما يحتمل عدم إزهاق الروح، بل قصد التأديب من الاب.
وإن كان في حق غيره، يحكم فيه بالعمد.
وإنما فرق بين الاب وغيره، لما للاب من الشفقة على ولده، وعليه قصد التأديب عند فعله ما يغضب الاب، فيحمل على عدم قصد القتل، لقوة المحبة التي بين الاب والابن.
6 - أن يكون المقتول مكافئا للقاتل حال جنايته، بأن يساويه في الدين، والحرية، فلا قصاص على مسلم قتل كافرا.
أو حر قتل عبدا، لانه لا تكافؤ بين القاتل والمقتول، بخلاف ما إذا قتل الكافر المسلم، أو قتل العبد الحر، فإنه يقتص منهما.
والاسلام وإن كان قد ألغى الفوارق بين المسلمين في هذا الباب، فلم يفرق بين شريف ووضيع، ولابين جميل ودميم، ولابين غني وفقير، ولا بين طويل وقصير، ولابين قوي وضعيف، ولابين سليم ومريض، ولابين كامل الجسم وناقصه، ولابين صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثى (1)
إلا أنه اعتبر الفارق بين المسلم والكافر، والحر والعبد، فلم يجعلهما متكافئين في الدم.
فلو قتل مسلم كافر أو قتل حر عبدا فلا قصاص على واحد منهما.
وأصل ذلك حديث علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرجل إذا قتل امرأة فإنه قتل بها.
وحكى ابن المنذر الاجماع على ذلك، وحكى أبو الوليد الباجي والخطابي عن الحسن البصري: أنه لا يقتل الرجل بالانثى، وهو قول شاذ مردود. ففي كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول: ان الذكر يقتل بالانثى.

" ألا لا يقتل مؤمن بكافر ".
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم. وصححه.
وروى البخاري عن علي كرم الله وجهه أيضا أن أبا جحيفة قال له: " هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن.
قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم (1) ، وفكاك الاسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
وهذا مجمع عليه بالنسبة للكافر الحربي: فإن المسلم إذا قتله، فإنه لا يقتل به إجماعا.
وأما بالنسبة للذمي والمعاهد، فقد اختلفت فيهما أنظار الفقهاء.
فذهب الجمهور منهم إلى أن المسلم لا يقتل بهما لصحة الاحاديث في ذلك، ولم يأت ما يخالفها.
وقالت الاحناف وابن أبي ليلى: لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر الحربي، كما قال الجمهور. وخالفوهم في الذمي، والمعاهد.
فقالوا: " إن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد بغير حق، فإنه يقتل بهما، لان الله تعالى يقول: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ".
وأخرج البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل مسلما بمعاهد.
وقال: " أنا أكرم من وفى بذمته ".
وقالوا أيضا: ان المسلمين أجمعوا على أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي.
فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه.
رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل ذميا كافرا، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة فألفاها إليه.
فإذا فيها:

(1) تتكافأ: تتساوى في الدية والقصاص.
(2) ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به الحجة، وحديثه هذا مرسل.
قال أبو عبد القاسم بن سلام: هذا الحديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله إماما تسفك به الدماء.

يا قاتل المسلم بالكافر - جرت، وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأطرافها - من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا على دينكم - واصطبروا، فالاجر للصابر جار على الدين أبو يوسف - بقتله المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة.
فقال الرشيد: " تدارك هذا الامر لئلا تكون فتنة ".
فخرج أبو يوسف، وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وقال مالك والليث: " لا يقتل المسلم بالذمي، إلا أن يقتله غيلة.
وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه، وبخاصة على ماله ".
هذا بالنسبة للكافر، وأما العبد، فإن الحر لا يقتل به إذا قتله، بخلاف ما إذا قتل العبد الحر، فإنه يقتل به.
لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رجلا قتل عبده صبرا (1) متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحاسهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة ".
ولان الله تعالى يقول: " الحر بالحر ".
وهذا التعبير يفيد الحصر، فيكون معناه: أنه لا يقتل الحر بغير الحر.
وإذا كان لا يقتل به فإنه يلزمه قيمته، بالغة ما بلغت، وإن جاوزت دية الحر.
هذا إذا قتل عبد غيره.
أما إذا كان السيد هو الذي قتل عبده فعقوبته ما ذكر في الحديث.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، منهم مالك والشافعي، وأحمد، والهادوية.
وقال أبو حنيفة: " يقتل الحر إذا قتل العبد، إلا إذا كان سيده ".
وذلك أن الآية الكريمة تقول:

(1) صبرا: أي حبسا.

" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ".
وهذا عام في كل الحالات، إلا إذا خصص، وقد خصصته السنة بحديث
البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقاد مملوك من مالكه.
ولا ولد من والده ".
ولو صح هذا لكان قويا، إلا أن الحديث من رواية عمر بن عيسى، وقد ذكر البخاري أنه منكر الحديث.
وقال النخعي: يقتل الحر بالعبد مطلقا، أخذا بعموم قوله تعالى: " أن النفس بالنفس ".
7 - ألا يشارك القاتل غيره في القتل، ممن لا يجب عليه القصاص، فإن شاركه غيره ممن لا يجب عليه القصاص كأن اشترك في القتل، عامد ومخطئ، أو مكلف وسبع، أو مكلف وغير مكلف: مثل الصبي والمجنون، فإنه لاقصاص على واحد منهما، وعليهما الدية، لوجود الشبهة التي تندرئ بها الحدود، فإن القتل لا يتجزأ، ويمكن أن يكون حدوثه من فعل الذي لا قصاص عليه - كما يمكن أن يكون ممن يجب عليه القصاص - وهذه الشبهة تسقط القود.
وإذا سقط وجب بدله، وهو الدية.
وخالف في ذلك مالك والشافعي رضي الله عنهما.
فقالا: على المكلف القصاص، وعلى غير المكلف نصف الدية.
ومالك يجعلها على العاقلة، والشافعية يجعلونها في ماله.
قتل الغيلة: وقتل الغيلة عند مالك أن يخدع الانسان غيره، فيدخل بيته ونحوه، فيقتل أو يأخذ المال.
قال مالك: " الامر عندنا أن يقتل به، وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان ".
وقال غيره من الفقهاء: لافرق بين قتل الغيلة وغيره، فهما سواء في
القصاص والعفو، وأمرهما راجع إلى ولي الدم.
وإذا قتلته جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية