سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم

إلا الله، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه، قبلت توبته وترتبت عليها آثارها، واشترط بعض العلماء - في التائب - أن يستأمن الحاكم فيؤمنه، وقيل: لا يشترط ذلك، ويجب على الامام أن يقبل كل تائب.
وقيل: يكتفي بإلقاء السلاح والبعد عن مواطن الجريمة وتأمين الناس بدون حاجة إلى الرجوع إلى الامام.
ذكر ابن جرير.
قال: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم.
قال: " قال الليث وكذلك حدثني موسي المدني - وهو الامير عندنا - أن عليا الاسدي حارب، وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الائمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا.
وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ".
(1) فوقف عليه فقال يا عبد الله: أعد قراءتها.
فأعادها عليه فغمد سيفه، ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر.
فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي.
فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله.
قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم فقرنوا سفينة إلى سفينة من سفنهم فاقتحم علي الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم، فغرقوا جميعا.
سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم:
تقدم أن حد الحرابة يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم لقول الله سبحانه:

(1) سورة الزمر الآية: 54

" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
(1) وليس هذا الحكم مقصورا على حد الحرابة، بل هو حكم عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحد ثم تاب منها قبل أن يرفع إلى الامام سقط عنه الحد، لانه إذا سقط الحد عن هؤلاء فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهم أخف جرما منهم، وقد رجح ذلك ابن تيمية فقال:
" ومن تاب من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر قبل أن يرفع إلى الامام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه.
كما يسقط عن المحاربين إجماعا إذا تابوا قبل القدرة عليهم ".
وقال القرطبي " فأما الشراب، والزناة، والسراق، إذا تابوا وأصلحوا.
وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام، فلا ينبغي أن يحدوا.
وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ".
وفصل الخلاف في ذلك ابن قدامة فقال: وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان: (إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (2) .
وذكر حد السارق ثم قال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم " (3) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " التائب من الذنب كمن لاذنب له " ومن لا ذنب له لاحد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه " هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه "؟! ولانه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
(ثانيتهما) لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله سبحانه: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ".

(1) سورة المائدة الآية: 34 (2) سورة النساء الآية: 39 (3) سورة المائدة الآية: 16

وهذا عام في التائبين وغيرهم.
وقال تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم ".
وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني، فأقام الرسول الحد عليه.
ولان الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولانه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: (أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لانها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
(وثانيهما) يعتبر إصلاح العمل لقوله سبحانه: " فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وقال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم ".
فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته.
وليست مقدرة بمدة معلومة.
وقال بعض أصحاب الشافعي: مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيت فلا يجوز.
دفاع الانسان عن نفسه وعن غيره: إذا اعتدى على الانسان معتد يريد قتله، أو أخذ ماله أو هتك عرض حريمه، فمن حقه أن يقاتل هذا المعتدي دفاعا عن نفسه وماله وعرضه ويدفع
بالاسهل فالاسهل، فيبدأ بالكلام أو الصياح أو الاستعانة بالناس إن أمكن دفع الظالم بذلك فإن لم يندفع إلا بالضرب فليضربه فإن لم يندفع إلا بقتله فليقتله ولا قصاص على القاتل ولا كفارة عليه، ولادية للمقتول لانه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدم لا يجب ضمانه.

فإن قتل المعتدى عليه وهوفي حالة دفاعه عن نفسه وماله وعرضه فهو شهيد.
1 - يقول الله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ".
(1) 2 - وعن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك.
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله.
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد.
قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار ".
3 - وروى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد.
ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ".
4 - وروي: أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل يراودها عن نفسها، فرمته بفهر (2) فقتلته، فرفع ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: " قتيل الله، والله لا يؤدى هذا أبدا ".
وكما يجب أن يدافع الانسان عن نفسه وماله وعرضه يجب عليه كذلك الدفاع عن غيره إذا تعرض للقتل أو أخذ المال، أو هتك العرض، ولكن بشرط أن يأمن على نفسه من الهلاك.
لان الدفاع عن الغير من باب تغيير المنكر والمحافظة على الحقوق، يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ".
وهذا من باب تغيير المنكر.

(1) سورة الشورى الآية: 41 (2) الفهر: الحجر.