محظورات الإحرام

وله أن يدفع ما يؤذيه من الادميين، والبهائم، حتى ولو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله.
فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ".
قال: وأذا قرصته البراغيث والقمل، فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شئ عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها.
وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله، وإن كان في نفسه محرما، كالاسد، والفهد، فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء.
وأما التفلي بدون التأذي، فهو من الترفه فلا يفعله، ولو فعله فلا شئ عليه.

محظورات الإحرام:
حظر الشارع على المحرم أشياء، وحرمها عليه، نذكرها فيما يلي:
1 - الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس لشهوة، وخطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالوطء.
2 - اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي التي تخرج المرء عن طاعة الله.
3 - المخاصمة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.
والاصل في تحريم هذه الاشياء، قول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال (1) في الحج) .
وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".

(1) الجدال المنهي عنه هنا: هو الجدال بغير علم، أو الجدال في باطل، أما الجدال في طلب الحق فهو مستحب أو واجب (وجادلهم بالتي هي أحسن.
)

4 - لبس المخيط (1) كالقميص والبرنس والقباء (2) والجبة والسراويل، أو لبس المحيط كالعمامة، والطربوش ونحو ذلك مما يوضع على الرأس.
وكذلك يحرم لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة، كما يحرم لبس الخف والحذاء (3) .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس (4) ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس (5) ، ولا زعفران، ولا الخفين، إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ".
رواه البخاري، ومسلم.
وقد أجمع العلماء على أن هذا مختص بالرجل.
أما المرأة فلا تلحق به، ولها أن تلبس جميع ذلك، ولا يحرم عليها إلا الثوب الذي مسه الطيب والنقاب (6) والقفازان (7) .
لقول ابن عمر رضي الله عنهما: نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر (8) أو خز (9) ، أو حلي (10) ، أو سراويل أو قميص، أو خف. رواه أبوه داود، والبيهقي، والحاكم ورجاله رجال الصحيح.
قال البخاري: ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة، وقالت: لا تلثم، ولا تتبرقع، ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران.
وقال جابر: لا أرى المعصفر طيبا.
ولم تر عائشة بأسا بالحلي، والثوب الاسود، والمورد، والخف للمرأة وعند البخاري، وأحمد عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1) المخيط: ما لبس على قدر العضو.
(2) " القباء ": القفطان.
(3) " الحذاء " في اللغة العامية المصرية: الجزمة، أو الكندرة.
(4) " البرنس ": كل ثواب رأسه منه.
(5) " الورس ": نبت أصفر طيب الريح يصبغ به.
(6) " النقاب ": ما يستر الوجه كالبرقع.
(7) " القفازان ": الجوانتي.
(8) " المعصفر ": المصبوغ بالعصفر.
(9) " الخز ": نوع من الحرير.
(10) " حلي " ما تتزين به المرأة.

" لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ".
وفي هذا دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها: قال العلماء: فإن سترت وجهها بشئ فلا باس (1) .
ويجوز ستره عن الرجل بمظلة ونحوها، ويجب ستره إذا خيفت الفتنة من النظر.
قالت عائشة: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبانها (2) على وجهها، فإذا جاوزوا بنا كشفناه.
رواه أبو داود، وابن ماجه.
وممن قال بجواز سدل الثوب: عطاء، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
الرجل الذي لا يجد الازار ولا الرداء ولا النعلين: من لم يجد الازار والرداء، أو النعلين لبس ما وجده.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفات وقال: " إذا لم يجد المسلم إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين (3) ".
رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.
وفي رواية لاحمد، عن عمرو بن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب - يقول: " من لم يجد إزارا ووجد سراويل فليلبسها، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما ".
قلت: ولم يقل ليقطعهما؟ قال: لا.
وإلى هذا ذهب أحمد فأجاز للمحرم لبس الخف والسراويل، للذي لا يجد النعلين والازار، على حالهما، استدلالا بحديث ابن عباس وأنه لافدية (4) عليه.

(1) اشتراط المجافاة عن الوجه ضعيف لا أصل له، أفاده ابن القيم. كذلك حديث: إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها.
(2) " الجلباب " الملحفة.
(3) أي إذا لم يجد هذه الاشياء تباع، أو وجدها، ولكن ليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الاصلية.
(4) رجح هذا ابن القيم

وذهب جمهور العلماء: إلى اشتراط قطع الخف دون الكعبين لمن لم يجد النعلين، لان الخف يصير بالقطع كالنعلين.
لحديث ابن عمر المتقدم، وفيه " إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ".
ويرى الاحناف شق السراويل وفتقها لمن لا يجد الازار، فإذا لبسها على حالها لزمته الفدية.
وقال مالك والشافعي: لا يفتق السراويل، ويلبسها على حالها، ولا فدية عليه، لما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ".
رواه النسائي بسند صحيح.
فإذا لبس السراويل، ووجد الازار لزمه خلعه.
فإذا لم يجد رداء لم يلبس القميص، لانه يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل.
5 - عقد النكاح لنفسه أو لغيره، بولاية، أو وكالة.
ويقع العقد باطلا، لا تترتب عليه آثاره الشرعية.
لما رواه مسلم وغيره، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب ".
رواه الترمذي وليس فيه " ولا يخطب ".
وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل.
وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم: " تزوج ميمونة وهو محرم " فهو معارض بمارواه مسلم " أنه تزوجها وهو حلال ".
قال الترمذي: اختلفوا في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، لانه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة، فقال بعضهم: تزوجها وهو حلال، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف، في طريق مكة.

وذهب الاحناف إلى جواز عقد النكاح للمحرم، لان الاحرام لا يمنع صلاحية المرأة للعقد عليها، وإنما يمنع الجماع، لاصحة العقد.
(6، 7) تقليم الاظفار وإزالة الشعر بالحلق، أو القص أو بأية طريقة، سواء أكان شعر الرأس أم غيره لقول الله تعالى: " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ".
وأجمع العلماء: على حرمة قلم الظفر للمحرم، بلا عذر، فإن انكسر، فله إزالته من غير فدية.
ويجوز إزالة الشعر، إذا تأذى ببقائه، وفيه الفدية إلا في إزالة شعر العين إذا تأذى به المحرم فإنه لافدية فيه (1) .
قال الله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ".
وسيأتي بيان ذلك.
(8) التطيب في الثوب أو البدن، سواء أكان رجلا أم امرأة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر وجد ريح طيب من معاوية، وهو محرم.
فقال له: ارجع فاغسله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " الحاج الشعث التفل ". رواه البزار بسند صحيح.
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما الطيب الذي بك فاغسله عنك، ثلاث مرات ".
وإذا مات المحرم لا يوضع الطيب في غسله ولافي كفنه (2) لقوله صلى الله عليه وسلم - فيمن مات محرما -: " لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ".
وما بقي من الطيب الذي وضعه في بدنه، أو ثوبه، قبل الاحرام، فإنه لا بأس به.

(1) قالت المالكية: فيه الفدية.
(2) جوز ذلك أبو حنيفة

ويباح شم ما لا ينبت للطيب، كالتفاح والسفرجل، فإنه يشبه سائر النبات، في أنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه.
وأما حكم ما يصيب المحرم من طيب الكعبة فقد روى سعيد بن منصور، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت أنس بن مالك، وأصاب ثوبه - وهو محرم - من خلوق الكعبة، فلم يغسله.
وروى عن عطاء، قال: لا يغسله ولا شئ عليه.
وعند الشافعية من تعمد إصابة شئ من ذلك، أو أصابه، وأمكنه غسله، ولم يبادر إليه فقد أساء، وعليه الفدية.
(9) لبس الثوب مصبوغا بماله رائحة طيبة: اتفق العلماء على حرمة لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة، إلا أن يغسل، بحيث لا تظهر له رائحة.
فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلبسوا ثوبا مسه ورس، أو زعفران، إلا أن يكون غسيلا " يعني في الاحرام، رواه ابن عبد البر، والطحاوي.
ويكره لبسه لمن كان قدوة لغيره، لئلا يكون وسيلة لان يلبس العوام ما يحرم، وهو المطيب.
لما رواه مالك عن نافع: أنه سمع أسلم - مولى عمر بن الخطاب - يحدث عبد الله بن عمر: أن عمربن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال عمر: ماهذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر (1) .
فقال عمر: إنكم - أيها الرهط - أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الاحرام، فلا تلبسوا - أيها الرهط - شيئا من هذه الثياب المصبغة.
وأما وضع الطيب في مطبوغ، أو مشروب، بحيث لم يبق له طعم ولا لون ولاريح، إذا تناوله المحرم فلا فدية عليه.

(1) " مدر ": أي مصبوغة بالمغرة.
وهو الدر الاحمر الذي تصبغ به الثياب

وإن بقيت رائحته، وجبت الفدية بأكله عند الشافعية.
وقالت الاحناف: لافدية عليه، لانه لم يقصد به الترفه بالطيب.
(10) التعرض للصيد: يجوز للمحرم أن يصيد صيد البحر، وأن يتعرض له، وأن يشير إليه، وأن يأكل منه.
وأنه يحرم عليه التعرض لصيد البر (1) بالقتل أو الذبح، أو الاشارة إليه،
وإن كان مرئيا، أو الدلالة عليه، إن كان غير مرئي، أو تنفيره.
وأنه يحرم عليه إفساد بيض الحيوان البري، كما يحرم عليه بيعه وشراؤه وحلب لبنه.
الدليل على هذا قول الله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة (2) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ".
(11) الاكل من الصيد: يحرم على المحرم الاكل من صيد البر الذي صيد من أجله أو صيد بإشارته إليه، أو بأعانته عليه.
لما رواه البخاري ومسلم عن عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم - فيهم أبو قتادة - فقال: " خذوا ساحل البحر حتى نلتقي " فأخذوا ساحل البحر.
فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون، إذا رأوا حمر وحش،

(1) " البري ": هو ما يكون توالده وتناسله في البر، وإن كان يعيش في الماء " والبحري " بخلافه عند الجمهور. وعند الشافعية: البري ما يعيش في البر فقط، أو في البر والبحر. و " البحري " ما لا يعيش إلا في البحر.
(2) قصر الشافعية والحنابلة: الحرمة على الصيد المأكول من الوحش والطير، فقالوا بحرمة قتله دون غيره من حيوانات البر، فإنه يجوز قتلها عندهم. والجمهور يرى تحريم قتلها جميعا، سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة إلا ما استثناء الحديث: خمس يقتلن في الحل والحرام..الخ.

فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا (1) ، فنزلوا فأكلوا من لحمها،
وقالوا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الاتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا، يارسول الله: إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانا فنزلنا، فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ " قالوا: لا.
قال: " فكلوا ما بقي من لحمها ".
ويجوز له أن يأكل من لحم الصيد الذي لم يصده هو، أو لم يصد من أجله، أو لم يشر إليه، أو يعين عليه.
لما رواه المطلب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " رواه أحمد والترمذي وقال: حديث جابر مفسر، والمطلب لا نعرف له سماعا من جابر.
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لا يرون بأكل الصيد للمحرم بأسا إذا لم يصده أو يصد من أجله.
قال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. وأقيس.
وهو قول أحمد وإسحق وبمقتضاه قال مالك أيضا والجمهور.
فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء، صيد له بإذنه أم بغير إذنه.
أما إن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم، أو باعه، لم يحرم عليه.
وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: خرجنا مع طلحة بن عبيد الله، ونحن حرم، فأهدي له طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع.
فلما استيقظ طلحة وفق (2) من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد ومسلم.
وما جاء من الاحاديث المانعة من أكل لحم الصيد كحديث الصعب بن

(1) " الاتان ": الانثى من الحمير الوحشية.
(2) " وفق ": صوب، أو دعا له بالتوفيق.

جثامة الليثي أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا - بالابواء أو بودان - فرده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه، قال: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ".
فهي محمولة على ما صاده الحلال من أجل المحرم، جمعا بين الاحاديث.
قال ابن عبد البر: وحجة من ذهب هذا المذهب، أنه عليه تصح الاحاديث في هذا الباب.
وإذا حملت على ذلك لم تضاد، ولم تختلف، ولم تتدافع.
وعلى هذا يجب تحمل السنن، ولا يعارض بعضها بعض ما وجد إلى استعمالها سبيل.
ورجح ابن القيم هذا المذهب وقال: آثار الصحابة كلها في هذا إنما تدل على هذا التفصيل.
حكم من ارتكب محظورا من محظورات الاحرام: من كان له عذر، واحتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الاحرام، غير الوطء (1) ، كحلق الشعر، ولبس المخيط اتقاء لحر، أو برد، ونحو ذلك، لزمه أن يذبح شاة، أو يطعم سنة مساكين، كل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. وهو مخير بين هذه الامور الثلاثة.
ولا يبطل الحج أو العمرة بارتكاب شئ من المحظورات سوى الجماع.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال: " قد آذاك هوام رأسك " قال: نعم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ".
رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود.

(1) سيأتي حكمه.

وعنه في رواية أخرى، قال: أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله سبحانه وتعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك.
" فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقا (1) من زبيب.
أو انسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت ".
وقال الشافعي غير المعذور على المعذور في وجوب الفدية، وأوجب أبو حنيفة، الدم، على غير المعذور إن قدر عليه لا غير، كما تقدم.
ما جاء في قص بعض الشعر:
عن عطاء قال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعدا، فعليه دم (2) . رواه سعيد بن منصور.
وروى الشافعي عنه: أنه قال في الشعرة مد، وفي الشعرتين مدان. وفي الثلاثة فصاعدا دم.

حكم الادهان:
قال في المسوى: ان الادهان إذا كانت بزيت خالص، أو خل خالص، يجب الدم عند أبي حنيفة في أي عضو كان.
وعند الشافعية: في دهن شعر الرأس واللحية بدهن غير مطيب، الفدية، ولا فدية في استعماله في سائر البدن.
لا حرج على من لبس، أو تطيب ناسيا، أو جاهلا: إذا لبس المحرم أو تطيب - جاهلا بالتحريم، أو ناسيا الاحرام - لم تلزمه الفدية.
فعن يعلى بن أمية قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل

(1) " الفرق ": مكيال يسع ستة عشر رطلا عراقيا.
(2) والمراد بالدم - هنا - شاة، وإليه ذهب الشافعي.

بالجعرانة، وعليه جبة، وهو مصفر لحيته ورأسه.
فقال: يارسول الله، أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: " غسل عنك الصفرة، وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك.
" رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
وقال عطاء: إذا تطيب، أو لبس - جاهلا أو ناسيا - فلا كفارة عليه.
رواه البخاري.
وهذا بخلاف ما إذا قتل صيدا - ناسيا أو جاهلا بالتحريم - فإنه يجب عليه الجزاء، لان ضمانه ضمان المال.
وضمان المال يستوي فيه العلم والجهل، السهو والعمد، مثل ضمان مال الادميين.
بطلان الحج بالجماع أفتى علي، وعمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم رجلا أصاب أهله وهو محرم بالحج، فقالوا: ينفذان لوجههما، حتى يقضيا حجمها، ثم عليهما حج قابل، والهدي.
وقال أبو العباس الطبري -: إذا جامع المحرم قبل التحلل الاول فسد حجه، سواء أكان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعده.
ويجب عليه أن يمضي في فاسده، ويجب عليه بدنة، والقضاء من قابل.
فإن كانت المرأة محرمة مطاوعة فعليها المضي في الحج والقضاء من قابل.
وكذا الهدي عند أكثر أهل العلم.
وذهب بعضهم إلى أن الواجب عليهما هدي واحد، وهو قول عطاء.
قال البغوي في شرح السنة: وهو أشهر قولي الشافعي، ويكون على الرجل كما قال في كفارة الجماع، في نهار رمضان.
وإذا خرجا في القضاء تفرقا (1) حيث وقع الجماع حذرا من مثل وقوع الاول.
وإذا عجز عن البدنة وجب عليه بقرة، فإن عجز فسبع من الغنم، فإن

(1) وجوبا عند أحمد ومالك، وندبا عند الحنفية والشافعية.

عجز قوم البدنة بالدراهم، والدراهم طعاما، وتصدق به، لكل مسكين مد، فإن لم يستطع صام عن كل مد يوما.
وقال أصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه، وعليه شاة، أو سبع بدنة، وإن جامع بعده لم يفسد حجه، وعليه بدنة.
والقارن إذا أفسد حجه، يجب عليه ما يجب على المفرد، ويقضي - قارنا - ولا يسقط عنه هدي القران.
قال: والجماع الواقع بعد التحلل الاول لا يفسد الحج.
ولا قضاء عليه، عند أكثر أهل العلم.
وذهب بعضهم إلى وجوب القضاء، وهو قول ابن عمر، وقول الحسن، وإبراهيم، ويجب به الفدية.
وتلك الفدية بدنة أو شاة؟ اختلف فيه.
فذهب ابن عباس وعطاء إلى وجوب البدنة وهو قول عكرمة، وأحد قولي الشافعي (1) .
والقول الاخر: يجب عليه شاة.
وهو مذهب مالك.
وإذا احتلم المحرم، أو فكر، أو نظر فأنزل: فلا شئ عليه عند الشافعية.
وقالوا: فيمن لمس بشهوة أو قبل: يلزمه شاة، سواء أنزل، أم لم ينزل.
وعند ابن عباس رضي الله عنهما: أن عليه دما.
قال مجاهد: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أحرمت، فأتتني فلانة في زينتها، فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي؟ فضحك ابن عباس حتى استلقى، وقال: إنك لشبق (2) ، لا بأس عليك ... أهرق دما، وقد تم حجك.
رواه سعيد بن منصور.

(1) واختاره صاحب المبسوط، والبدائع من الاحناف.
(2) " الشبق ": شدة الغلمة والرغبة في النكاح.