ترك الجنازة من أجل المنكر، الدفن

شعبة: عن وكيع عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو ابن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عمر امرأة، فصاح بها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها يا عمر.
فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب (1) ".
قال: وقد صح عن ابن عباس أنه لم يكره ذلك.

ترك الجنازة من أجل المنكر:
قال صاحب المغني: فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه، فإن قدر على إنكاره وإزالته أزاله، وإن لم يقدر على إزالته ففيه وجهان: أحدهما ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالانكارو لا يترك حقا لبالطل.
والثاني يرجع لانه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك.

الدفن:
(1) حكمه: أجمع المسلمون على أن دفن الميت ومواراة بدنه فرض كفاية، قال الله تعالى: (ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا) .
يرى جمهور العلماء أن الدفن بالليل كالدفن بالنهار سواء بسواء.
فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر ليلا، ودفن علي فاطمة رضي الله عنها ليلا، وكذلك دفن أبو بكر وعثمان وعائشة وابن مسعود.
وعن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال: " رحمك الله.
إن كنت لاواها تلاء للقرآن " وكبر عليه أربعا.
رواه الترمذي وقال: حديث حسن قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل.
وإنما يجوز ذلك إذا كان لا يفوت بالدفن ليلا شئ من حقوق الميت

(1) إسناد هذا الحديث صحيح.

والصلاة عليه.
فإذا كان يفوت به حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام بأمره، فقد نهى الشارع عن الدفن بالليل وكرهه، روى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك.
وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا ".
(3) الدفن وقت الطلوع والاستواء والغروب:
اتفق العلماء على أنه إذا خيف تغير الميت فإنه يدفن في هذه الاوقات الثلاثة بدون كراهة.
أما إذا لم يخش عليه من التغير، فإنه يجوز دفنه في هذه الاوقات عند الجمهور ما لم يتعمددفنه فيها فإنه حينئذ يكون مكروها، لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عقبة قال: " ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف (1) الشمس للغروب حتى تغرب ".
وقالت الحنابلة يكره الدفن في هذه الاوقات مطلقا للحديث المذكور.
(4) استحباب إعماق القبر: القصد من الدفن أن يوارى الميت في حفرة تحجب رائحته، وتمنع السباع والطيور عنه، وعلى أي وجه تحقق هذا المقصود تأدى به الفرض وتم به الواجب، إلا أنه ينبغي تعميق القبر قدر قامة، لما رواه النسائي والترمذي وصححه عن هشام بن عامر.
قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد " فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: " قدموا أكثرهم قرآنا " وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد..

(1) تضيف: تميل وتجنح.

وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر أنه قال: أعمقوا إلى قدر قامة وبسطة.
وعند أبي حنيفة وأحمد يعمق قدر نصف القامة. وإن زاد فحسن.
(5) تفضيل اللحد على الشق:
اللحد هو الشق في جانب القبر جهة القبلة، ينصب عليه اللبن (1) فيكون كالبيت المسقف.
والشق حفرة في وسط القبر تبنى جوانبها باللبن يوضع فيه الميت ويسقف عليه بشئ، وكلاهما جائز، إلا أن اللحد أولى، لما رواه أحمد وابن ماجه عن أنس قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيما سبق تركناه، فأرسلوا إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا له ".
وهذا يدل على الجواز.
أما ما يدل على أولوية اللحد، فما رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللحد لنا، والشق لغيرنا ".
(6) صفة إدخال الميت القبر: من السنة في إدخال الميت القبران يدخل من مؤخره إذا تيسر، لما رواه أبو داود وابن أبي شيبة والبيهقي من حديث عبد الله بن زيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجليه القبر وقال: هذا من السنة.
فان لم يتسر فكيفما أمكن.
قال ابن حزم: ويدخل الميت القبر كيف أمكن، إما من القبلة، وامامن دبر القبلة، واما من قبل رأسه.
واما من قبل رجليه، إذ لانص في شئ من ذلك.
(7) استحباب توجيه الميت في قبره الى القبلة والدعاء له وحل أربطة الكفن: السنة التي جرى عليها العلم، ان يجعل الميت في قبره على جنبه الايمن ووجهه تجاه القبلة.
ويقول واضعه: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو وعلى سنة رسول الله " ويحل أربطة الكفن.
فعن ابن عمر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر، قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو، وعلى سنة رسول الله " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه،

(1) اللبن: الطوب النئ.

ورواه النسائي مسندا وموقوفا.
(8) كراهة الثوب في القبر: كره جمهور الفقهاء وضع ثوب أو وسادة أو نحو ذلك للميت في القبر.
ويرى ابن حزم أنه لا بأس ببسط ثوب في القبر تحت الميت، لما رواه مسلم عن ابن عباس، قال: بسط في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء، قال وقد ترك الله هذا العمل في دفن رسوله المعصوم من الناس ولم يمنع منه، وفعله خيرة أهل الارض في ذلك الوقت باجماع منهم، لم ينكره احد منهم.
واستحب العلماء أن يوسد رأس الميت بلبنة أو حجر أو تراب، ويفضى بخده الايمن إلى اللبنة ونحوها، بعد ان ينحى الكفن عن خده، ويوضع على التراب، قال عمر: إذا انزلتموني الى اللحد فأفضوا بخدي الى التراب.
واوصى الضحاك ان تحل عنه العقد ويبرز خده من الكفن، واستحبوا ان يوضع شئ خلفه من لبن أو تراب يسنده، لا يستلقى على قفاه.
واستحب أبو حنيفة ومالك واحمد، أن يمد ثوب على المرأة عند إدخالها في القبر دون الرجل، واستحب الشافعية ذلك في الرجل والمرأة على السواء.
(9) استحباب ثلاث حثيات على القبر: ويستحب أن يحثو من شهد الدفن ثلاث حثيات بيديه على القبر من جهة رأس الميت، لما رواه ابن ماجه: " ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا " واستحب الائمة الثلاثة أن يقول في الحثية الاولى: " منها خلقناكم " وفي الثانية: " وفيها نعيدكم " وفي الثالثة: " ومنها نخرجكم تارة أخرى " لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ذلك لما وضعت أم كلثوم بنته في القبر.
وقال أحمد: لا يطلب قراءة شئ عند حثو التراب لضعف الحديث.
(10) استحباب الدعاء للميت بعد الفراغ من الدفن: يستحب الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه وسؤال التثبيت له، لانه يسأل في هذه الحالة.
فعن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: " استغفر والاخيكم وسلواله التثبيت فانه الآن يسأل " رواه أبو داود والحاكم وصححه، والبزار وقال: لا يروى عن النبي صلى الله

عليه وسلم إلا من هذا الوجه.
وروى رزين عن علي: أنه كان إذا فرغ من دفن الميت قال: اللهم هذا عبدك نزل بك واتت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله.
واستحب ابن عمر قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن.
رواه البيهقي بسند حسن.
(11) حكم التلقين بعد الدفن: استحب بعض أهل العلم والشافعي ان يلقن الميت (1) بعد الدفن، لما رواه سعيد بن منصور عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحكيم بن عمير (2) قالوا: إذا سوي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون ان يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لاإله إلا الله، أشهد ان لا إله إلا الله " ثلاث مرات " يا فلان قل: ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ينصرف.
وقد ذكر هذا الاثر الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة أنه قال: " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فانه يستوي قاعدا. ثم يقول: يا فلان بن فلانة.
فانه يقول: ارشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، فان منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد بيد صاحبه، ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته " فقال رجل: يا رسول الله فان لم يعرف أمه؟ قال: " ينسبه إلى أمه حواء: يا فلان ابن حواء ".
قال الحافظ في التلخيص: واسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه.
وفي إسناده عاصم بن عبد الله، وهو ضعيف.
وقال الهيثمي بعد أن ساقه: في إسناده جماعة لم أعرفهم.
قال النووي: هذا الحديث وان كان ضعيفا فيستأنس به، وقد اتفق علماء

(1) الميت: أي المكلف.
أما الصغير فلا يلقن.
(2) هؤلاء تابعيون.