[مقدمة الأستاذ أبو سعيد الواعظ رضي الله عنه]

(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا والنهار نشورا والحمد لله الأبدي السابق القوي الخالق الوفي الصادق الذي لا يبلغ كنه مدحه الناطق ولا يعزب عنه ما تجن الغواسق فهو حي لا يموت ودائم لا يفوت وملك لا يبور وعدل لا يجوز عالم الغيوب وغافر الغيوب وغافر الذنوب وكاشف الكروب وساتر العيوب دانت الأرباب لعظمته وخضعت الصعاب لقوته وتواضعت الصلاب لهيبته وانقادت الملوك لملكه فالخلائق له خاشعون ولأمره خاضعون وإليه راجعون تعالى الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم انتخب محمدا من خلقه واصطفاه من بريته واختاره وأيده بحكمته وسدده بعصمته وأرسله بالحق بشيرا بعقوبته مباركا على أهل دعوته فبلغ ما أرسل به ونصح لأمته وجاهد في ذات ربه وكان كما وصفه ربه عز وجل رحيما بالمؤمنين عزيزا على الكافرين صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين
(قال الأستاذ أبو سعيد الواعظ رضي الله عنه) أما بعد فإنه لما كانت الرؤيا الصحيحة في الأصل منبئة
عن حقائق الأعمال منبهة على عواقب الأمور إذ منها الآمرات والزجرات ومنها المبشرات والمنذرات وكيف لا تكون كذلك وهي من بقايا النبوة وأجزائها بل هي أحد قسمي النبوة فإن من الأنبياء صلوِات الله عليهم من كان وحيه الرؤيا فهو نبي ومن كان وحيه على لسان الملك وهو في اليقظة فهو رسول وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي
(وقد أخبرنا) أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفاء قال أخبرنا محمد بن المغيرة قال حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاثة: الرؤيا الصالحة بشرى من الله عزّ وجل ورؤيا المسلم التي يحدث بها نفسه ورؤيا تحزين من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدث به وليقم فليصل وقال أحب القيد وأكره الغل القيد الثابت في الدين
(وأخبرنا أبو عمر ومحمد بن جعفر بن محمد بن مطر) قال حدثنا حامد بن محمد بن شعيب قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا أيوب قال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضوان الله عليها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يبقى من بعدي من النبوة إلا المبشرات".
قالوا يا رسول الله وما المبشرات قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو ترى له".
(أخبرنا) أبو عبد الله المهبلي قال حدثنا محمد بن يعقوب قال حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرنا عقبة بن علقمة بن المعافري قال أخبرني الأوزاعي قال حدثنا بن أبي كثير حدثني عبادة ابن الصامت قال سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية {الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} . فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد غيرك هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له".
(وأخبرنا) أبو سهل بشر بن أحمد بن الفقيه قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا صدقة بن خالد قال حدثني ابن جابر قال حدثني عطاء الخراساني قال حدثني ابن ثابت بن شماس قال لما انزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْق صَوْتِ النبي} الآية دخل ثابت بن قيس بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه فسأله فقال إني رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي قال لست منهم تعيش بخير وتموت بخير قال ثم أنزل الله تعالى: {إن الله يحب كل مختال فخور}
فأغلق عليه بابه وطفق يبكي ففقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه فأخبره فقال إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي قال: "لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا ويدخلك الله الجنة". قال فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب فلما التقوا انكشفوا فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة ما هكذا كنا نقاتل على عهد مئذ؟؟ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم حفر كل واحد منهما حفرة فأتيا فقاتلا حتى قتلا على ثابت يومئذ درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه قيس بن ثابت فقال إني أوصيك بوصية إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد ألقى على الدرع برمة وفوق البرمة رجل فأت خالد بن الوليد فمره فليبعث إلى درعي فيأخذها فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي فأتى الرجل خالد بن الوليد فاخبره فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر رضوان الله عليه برؤياه
فأجاز وصيته ولم نعلم أحدا جيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس
(قال الأستاذ أبو سعيد رضي الله عنه) فهذه الأخبار التي رويناها تدل على أن الرؤيا في ذاتها حقيقة وأن لها حكما وأثرا وأول رؤيا في الأرض رؤيا آدم عليه السلام وهي ما أخبرناه به محمد بن عبد الله بن حمدويه قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال حدثنا عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه قال أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت لك فيهم شبيها قال لا يا رب وقد كرمتني وعظمتني فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتبعدك معي فقال الله تعالى لهُ نعم فألقى عليه النعاس فخلق منه حواء على صورته واراه في منامه ذلك وهي أول رؤيا كانت في الأرض فانتبه وهي جالسة عند رأسه فقال له ربه يا آدم ما هذه الجالسة التي عند رأسك فقال له آدم الرؤيا التي أريتني في المنام يا إلهي
(ومما يدل على تحقيق الرؤيا في الأصل) أن إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في المنام ذبح ابنه فلما استيقظ ائتمر لما أمر به في منامه ذلك قال الله عزّ وجل حكاية عنه {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} . فلما علم إبراهيم عليه السلام
برؤياه وبذل جهده في ذلك إلى أن فرج الله عنه بلطفه علم به أن للرؤيا حكما ثم رؤيا يوسف عليه السلام وهي ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد قال أخبرنا الحسن بن محمد الأزهري قال حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال حدثنا عبد المنعم بن إدريس قال حدثني أبي عن وهب بن منبه إن يوسف بن يعقوب عليهما السلام رأى رؤيا وهو يومئذ صبي نائم في حجر أحد أخوته وبيد كل رجل منهم عصا غليظة يرعى بها السباع عن غنمه وليوسف عليه السلام قضيب خفيف دقيق صغير يتوكأ عليه ويقاتل به السباع عن غنمه ويلعب به وهو إذ ذاك صبي في الصبيان فلما استيقظ من نومه وهو في حجر أحد أخوته قال إلا أخبركم يا أخوتي برؤيا رأيتها في منامي هذا قالوا بلى فأخبرنا قال فإني رأيت قضيبي هذا غرز في الأرض ثم أتي بعصيكم كلها فغرزت حوله فإذا هو أضغرها وأقصرها فلم يزل يترقى في السماء ويطولها حتى طال عصيكم فثبت قائما في الأرض وتفرشت عروقه من تحتها حتى انقلعت عصيكم فثبت قائما وسكنت حوله عصيكم فلما قص عليهم هذه الرؤيا قالوا يوشك ابن راحيل أن يقول لنا أنتم عبيدي وأنا سيدكم ثم لبث بعد هذا سبع سنين ورأى فيها الكواكب والشمس والقمر فقال لأبيه {يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} . فعرف يعقوب تأويل الرؤيا وخشي عليه إخوته فالقمر أبوه والشمس أمه والكواكب إخوته فقال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا وذكر إلى أن قال {ورفع أبويه على العرش} يعني أجلسهما على السرير وآواهم إلى منزله وخر له أبواه وإخوته سجدا تعظيما له وكانت تحية الناس في ذلك الزمان السجود ولم تزل تحية الناس السجود حتى جاء الله تعالى بالإسلام فذهب بالسجود وجاء بالمصافحة ثم إن يعقوب عليه السلام رأى في المنام قبل أن يصيب يوسف ما فعل إخوته وهو صغير كأن عشرة ذئاب أحاطت بيوسف ويعقوب على جبل ويوسف في السهل فتعاورته بينهم فأشفق عليه وهو ينظر إليه من فوق الجبل إذا انفرجت الأرض ليوسف فغار فيها وتفرقت عنه الذئاب فذلك قوله لبنيه إني أخاف أن يأكله الذئب ثم قصة موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي ما ذكر وهب أن فرعون حلم حلما فظع به وهاله رأى كأن ناراً خرجت من الشام ثم أقبلت حتى انتهت إلى مصر فلم تدع شيئا إلا أحرقته وأحرقت بيوت مصر كلها ومدائنها وحصونها فاستيقظ من نومه فزعا مرتاعا فجمع لها ملأ عظيما من قومه فقصها عليهم فقالوا
له لئن صدقت رؤياك ليخرجن من الشام من ولد يعقوب من يكون هلاك مصر وهلاك أهلها على يديه وهلاكك أيها الملك فعند ذلك أمر فرعون بذبح الصبيان حتى أظهر الله تعالى تأويل رؤياه ولم تغن عنه حيلته شيئا وربي موسى عليه السلام في حجره ثم أهلكه على يديه عزت قدرته وجلت عظمته ثم رؤيا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وهي ما أخبرنا أبو سهل بن أبي يحيى الفقيه قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا صدقة قال ابن جابر عن سليمان بن عامر الكلاعي قال حدثنا أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "بينما أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأخرجاني وأتيا بي جبلا وعرا فقالا لي أصعد فقلت لا أطيقه قالا إنا سنسهله لك قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بصوت شديد [فقلت؟؟] ما هذه الأصوات فقالوا هذا عواء أهل النار ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة [ ... ؟؟؟ ... ] تسيل أشداقهم دما فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم فقلت خابت اليهود والنصارى". قال سليمان فلا أدري أشيء سمعه أبو أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو شيء قال برأيه "ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد منهم انتفاخا وأنتنهم ريحا كأن ريحهم المراحيض فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الزانون والزواني قال
ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين فقلت من هؤلاء قال هؤلاء ذراري المسلمين ثم شرفا بي شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم فقلت من هؤلاء قال هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة ثم شرفا بي شرفا آخر فإذا بنفر ثلاثة قلت من هؤلاء قال هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك
(وأخبرنا) أبو سعيد أحمد بن محمد بن إبراهيم قال حدثني علي بن محمد الوراق قال حدثنا أحمد بن محمد بن نصر قال أخبرنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال سحر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ عند عائشة فاشتكى لذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تخوفنا عليه فبينما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه ما شكواه ليفهم عنهما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال طب قال من فعله به قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال أين صنعه قال في بئر ذي أروان قال فما دواؤه قال يبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها ثم ينتهي إلى صخرة فيقلعها فإذا فيها وتر في كربة عليها إحدى عشرة عقدة فيحرقها فيبرا إن شاء الله تعالى أما انه بعث إليها استخرجها قال فاستيقظ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد فهم ما قيل له فبعث عمار بن ياسر ورهطا من أصحابه
إلى تلك البئر وقد تغير ماؤها كأنه ماء الحناء قال فنزح ماؤها ثم انتهى إلى الصخرة فاقتلعها فإذا تحتها كربة وفي الكربة وتر فيه إحدى عشرة عقدة فأتوا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هاتان السورتان قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس هما إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية انحلت عقدة فلما حل العقد قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكأنما نشط من عقال قال وأحرق الوتر قال وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتعوذ بهما وكان لبي يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما ذاكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رؤى في وجهه شيء فهذه جملة دالة على تحقيق أمر الرؤيا وثبتها في أخبار كثيرة يطول الكتاب بذكرها
(قال الأستاذ أبو سعيد رضي الله عنه) لما رأيت العلوم تتنوع أنواعا منها ما ينفع في الدنيا دون الدين ومنها ما ينفع فيهما جميعا وكان علم الرؤيا من العلوم النافعة دينا استخرت الله في جمع صدر منه سالكا نهج الاختصار مستعينا الله في إتمامه على ما هو أرضى لديه وأحب إليه ومستعيذا به من وباله وفتنته والله تعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
(قال الأستاذ أبو سعيد) يحتاج الإنسان إلى إقامة آداب لتكون رؤياه أقرب إلى الصحة فمنها أن يتعود الصدق في أقواله لما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا
ومنها أن يحافظ على استعمال الفطرة جهده فقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يسأل أصحابه كل يوم هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا فيقصونها عليه فيعبرها لهم ثم سألهم أياما فلم يقص عليه أحد منهم رؤيا فقال لهم كيف ترون وفي أظفاركم الرفغ وذلك أن أظفارهم قد طالت وتقليمها من الفطرة ومنها أن ينام على طهر وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الفجر وأن لا أنام إلا على طهر ومنها أن ينام على جنبه الأيمن فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب التيامن في كل شيء وروى أنه كان ينام على جنبه الأيمن ويضع يده اليمنى تحت خذه الأيمن ويقول اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك وروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا اتخذت مضجعها قالت اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة غير كاذبة نافعة غير ضارة حافظة غير ناسية وفي بعض الأخبار أن من سنة النائم أن يقول إذا أوى إلى فراشه اللهم أعوذ بك مت الاحتلام وسوء الأحلام وأن يتلاعب بي الشيطان في اليقظة والمنام
ثم الرؤيا على ضربين حق وباطل
فأما الحق فما يراه الإنسان مع اعتدال طبائعه واستقامة
الهواء من حين تهتز الأشجار إلى حين يسقط ورقها، وأن لا ينام على فكرة وتمني شيء مما رآه في منامه ولا يخل بصحة الرؤيا جنابة ولا حيض
وأما الباطل منها فما تقدمه حديث نفس وهمة وتمن ولا تفسير لها وكذلك الاحتلام الموجب للغسل جار مجراه في أنه ليس تأويل وكذلك رؤيا التخويف والتخزين من الشيطان قال الله تعالى: {إنّما النَّجْوَى مِنَ الشّيْطانِ ليَحْزُنَ الذِين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله} . ثم إن من السنة خصال يعملها الذي يرى في منامه ما يكره يتحول عن جنبه الذي نام عليه إلى الجنب الآخر ويتفل عن يساره ثلاثا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويقوم فيصلي ولا يحدث أحدا برؤياه وقد روي أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله إنني أرى في المنام رؤيا تحزنني فقال عليه السلام وأنا أيضا أرى في المنام ما يحزنني فإذا رأيت ذلك فاتفل عن يسارك ثلاثا وقل اللهم إني أسألك خير هذه الرؤيا وأعوذ بك من شرها. ومن ذلك أضغاث أحلام وهي أن يرى الإنسان كأن السماء صارت سقفا ويخاف أن يقع عليه وأن الأرض رحى تدور أو نبت من السماء أشجار وطلع من الأرض نجوم أو تحول الشيطان ملكا والفيل نملة وما أشبه ذلك ولا تأويل لها ومن ذلك رؤيا يراها الإنسان عند تشويش طبائعه
كالدموي يرى الحمرة والمرطوب يرى الرطوبة والصفراوي يرى الصفرة والسوداوي يرى الظلمات والسواد والمحرور يرى الشمس والنار والحمام والمبرود يرى والممتلئ يرى الأشياء الثقيلة على نفسه فهذا النوع من الرؤيا لا تأويل له أيضا ثم إن أصدق الرؤيا ما كانت في نوم النهار أو نوم آخر الليل فقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال أصدق الرؤيا ما كان بالأسحار وروى أنه قال: أصدق الرؤيا رؤيا النهار لأن الله تعالى أوحى إلي نهارا
(وحكى) عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أنّه قال أصدق الرؤيا رؤيا القيلولة
(قال الأستاذ أبو سعيد رضي الله عنه) ولصاحب الرؤيا آداب يحتاج إلى أن يتمسك بها وحدود ينبغي أن يتعداها وكذلك للمعبر فأما آداب صاحب الرؤيا فإن لا يقصها على حاسد وذلك أن يعقوب عليه السلام قال ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ولا يقصها على جاهل فقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال لا تقصص رؤياك إلا على حبيب أو لبيب وأن لا تكذب في رؤياك فقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من كذب في الرؤيا كلف يوم القيامة عقد شعيرتين ولا يقصها إلا سرا كما رأى سرا ولا يقصها على صبي أو امرأة والأولى أن يقص رؤياه في إقبال السنة وفي إقبال النهار دون إدبارهما،
وأما آداب المعبر فمنها أن يقول إذا قص عليه أخوه رؤيا خيرا رأيت فقد روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قصت عليه رؤيا يقول خيرا تلقاه وشرا تتوقاه وخيرا لنا وشرا لأعدائنا الحمد لله رب العالمين أقصص رؤياك ومنها أن يعبرها على أحسن الوجوه فقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الرؤيا تقع على ما عبرت روى أنه قال الرؤيا على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت ومنها أن يحسن الاستماع إلى الرؤيا ثم يفهم السائل الجواب ومنها أن يتأنى في التعبير ولا يستعجل به ومنها أن يكتم عليه رؤياه فلا يفشيها فإنه أمانة ويتوقف في التعبير عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب ومنها أن يميز بين أصحاب الرؤيا فلا يفسر رؤيا السلطان حسب رؤيا الرعية فإن الرؤيا تختلف باختلاف أحوال صاحبها والعبد إذا رأى في منامه ما لم يكن له أهلا فهو لمالكه لأنه ماله وكذلك المرأة إذا رأت ما لم تكن له أهلا فهو لزوجها لأنها خلقت من ضلعه وتأويل رؤيا الطفل لأبويه ومنها أن يتفكر في رؤيا تقص عليه فإن كانت خيرا عبرها وبشر صاحبها قبل تعبيرها وإن كانت شرا أمسك عن تعبيرها أو غيرها على أحسن محتملاتها فإن كان بعضها خيرا وبعضها شرا عارض بينهما ثم أخذ بأرجحهما وأقواهما في الأصول فإن أشكل عليه سأل القاص
عن اسمه لما روي أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إذا أشكل عليكم الرؤيا فخذوا بالأسماء وبيانه أن أسم سهل سهولة وسالم سلامة وأحمد ومحمد محمدة ونصر نصرة وسعاد سعادة وأيضا يعتبر في ذلك ما يستقبله في ذلك الوقت فإن استقبلته عجوز فهي دنيا مدبرة وإن استقبله برذون أو بغل أو حمار فهو سفر لقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} وإن سمع في ذلك الوقت نعيق الغراب واحدة أو ثلاثا أو أربعا أو ستا فهو خير فأما الأربع فيسقط منها واحدة فيبقى ثلاثة والست خير لا يسمعها إلا الأكابر وإن سمع اثنتين فلا يستحب
(وحكي) عن ابن عباس أنه قال إذا نعق الغراب ثلاثا فهو خير وبالفارسية ديك وإذا نعق الغراب اثنتين فهو شر وبالفارسية بد ويكره أن يقص الرؤيا يوم الثلاثاء لأنه يوم إهراق الدماء ويوم الأربعاء لأنه يوم نحس مستمر ولا يكره سائر الأيام وفي هذا القدر الذي صدرنا به كتابنا غنيمة لمن تدبره وتأمل معانيه إذ لو بسطناه لأدى إلى الإبرام والملل وأرجو أنّ الله تعالى ينفعنا به ويعيذنا من علم لا ينفع وبطن لا يشبع ونفس لا تخشع ودعاء لا يسمع ومن طبع يهدى إلى طمع ومن طمع حيث لا مطمع إنه تعالى القادر على ما يشاء الفعال لما يريد وحسبي الله ونعم الوكيل.