ابن الأجدابي : حياته وثقافته
هو الفقيه اللغوي أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الطرابلسي المغربي الأفريقي (١). ويعرف بابن الأجدابي نسبة إلى اجدابية ، وهي بلدة من نواحي افريقية ، تقع قريبا من طرابلس الغرب ، إلى الشرق منها قليلا. وكان أسلافه ينسبون إليها ، أما هو فقد كان من أهل طرابلس الغرب ، نشأ فيها ، وتوفي هناك أيضا حوالي سنة ٦٥٠.
اشتهر أبو إسحاق ابن الأجدابي بالعلم ، وكانت له يد جيدة في اللغة وتحقيقها وإفادتها ، فعرف لذلك بالاشتغال باللغة خاصة. وقد اتفقت على وصفه بذلك كل المصادر التي ترجمت له دون استثناء. وكان أديبا فاضلا ، بلغ مبلغ الشيوخ في العلم ، فتصدر للتعليم في بلده.
وما كنا نعلم أن طرابلس الغرب كانت مركزا من مراكز الفكر والعلم ، وما كنا رأينا كذلك علماء كبارا لهم شأن في علم من العلوم ينشئون فيها. ولكن نشأة أبي إسحاق ابن الأجدابي في طرابلس الغرب ، واشتهاره بالعلم والتعليم فيها ، واشتغاله بالتصنيف في اللغة وغيرها من الفنون ، يدل دلالة قاطعة على أن طرابلس الغرب كانت حقا مركزا للعلم ، وان لم تبلغ في ذلك مبلغ حواضر الحضارة والعمران الكبرى في المشرق والمغرب من مثل بغداد ودمشق وحلب والقاهرة والقيروان وقرطبة.
__________________
(١) أنظر ترجمته في انباه الرواة ١ / ١٥١ ، ومعجم الأدباء ١ / ١٣٠ ، ومعجم البلدان (اجدابية). وبغية الوعاة ١٧٨ ، وكشف الظنون ٢ / ٣٩٩ ، وهدية العارفين ١ / ١٠ ، والاعلام ١ / ٢٥ ، وبروكلمان ١ / ٨٣ ، وذيله ١ / ٥٤١.
وعرف أبو إسحاق ابن الأجدابي ، إلى جانب اشتهاره بالعلم ، بتصنيف الكتب ، والإحسان في التصنيف. وقد ذكرت له المصار الكتب التالية :
١ ـ كفاية المتحفظ ، وهي مقدمة لطيفة مختصرة في اللغة. وقد اشتهرت ، واشتغل بها الناس في مصر والمغرب.
٢ ـ كتاب الأنواء ، وهو كتاب الأزمنة والأنواء هذا الذي حققناه.
٣ ـ اختصار نسب قريش لأبي عبد الله ابن الزبير ، مع زوائد وإلحاقات تشتمل على فوائد.
٤ ـ شرح ما آخره ياء من الأسماء ، وبيان اعتلال هذه الياء.
٥ ـ كتاب الرد على تثقيف اللسان في اللغة.
٦ ـ كتاب العروض ، وهو صغير.
٧ ـ كتاب العروض ، وهو كبير.
٨ ـ المختصر في علم الأنساب.
ولكن هناك شيء يلفت نظرنا ويسترعي انتباهنا بالنسبة إلى هذه الكتب ، وهو أن المصادر نعتت أغلب هذه الكتب بما يفيد أنها صغيرة الحجم مختصرة ، إلى جانب وصفها بالجودة والنفع. وقد رأينا ذلك حقا حين الكلام آنفا على خطة ابن الأجدابي في تأليف كتاب الأزمنة والأنواء. والسبب في ذلك ، فيما نرى ، أن البيئة
العلمية في طرابلس الغرب ، بلد ابن الأجدابي ، كانت ضيقة الحدود ، لا تستدعي منه التطويل والتفصيل في التأليف ، ويبدو أن أفراد هذه البيئة كانوا يكتفون بأصول العلوم وأسسها ، ولا يتطلبون استيعاب الجزئيات والدقائق وراء ذلك.
هذا إلى أن عادة وضع الكتب المختصرة في العلوم كانت أصلا من أصول التأليف عند العرب ، اتبعه العلماء لغاية التعليم والتيسير ، منذ القديم. ولكن اتباع هذا الأصل قد شاع وذاع بعد القرن الرابع للهجرة ، بسبب تأسيس المدارس للتعليم في المدن ، فكانت هذه المختصرات كالكتب المدرسية في أيامنا ، وبسبب انتشار الثقافة بين أوساط الناس ، وازدياد جمهور المثقفين ثقافة وسطا. حتى أن الشيخ من الشيوخ كثيرا ما كان يضع كتابين اثنين في علم من العلوم ، يجعل أحدهما مختصرا ، يقصد به المبتدئين في التعلم ، ويجعل الثاني جامعا مطولا ، يضم اشتات العلم. ويحيط بأطرافه.
وقد اتبع أبو إسحاق ابن الأجدابي نفسه هذه الطريقة في بعض كتبه. فقد رأيناه يضع كتابين اثنين في فن العروض ، أحدهما صغير ، أي مختصر بسيط ، والثاني كبير ، أي مطول مفصل.