كتاب الأزمنة والأنواء لابن الأجدابي

قل التأليف في الأزمنة والأنواء على مذهب العرب القدامى مع تراخي الأيام ، وتصرم العصور. حتى كاد العلماء ينقطعون عن التأليف فيها انقطاعا تاما مع إطلالة القرن السادس للهجرة.

وفي مكنتنا أن نحصر أسباب هذه الحقيقة في عاملين اثنين. أولهما أن العلماء الذين وضعوا كتبا في الأزمنة والأنواء على مذهب العرب قد استنفدوا القول في هذا الباب ، ولم يتركوا فيه مقالا يقوله متأخر يأتي بعدهم.

والعامل الثاني هو تطور علوم الهيئة والنجوم عند العرب ، وتقدمها تقدما كبيرا ، خلال القرون المنصرمة قبل القرن السادس للهجرة ، وبلوغها أوج الإزدهار في هذا القرن والقرن السابع بعده ، وهو القرن الذي نشأ فيه نصير الدين الطوسي (٦٧٢) ، وألف كتابه تحرير المجسطي ، وأقام المرصد الكبير في مراغة الواقعة في شمال إيران إلى الغرب. حتى غدت الأزمنة والأنواء المعروفة على مذهب العرب القدامى شيئا ساذجا بسيطا ، لا يكاد يذكر إلى جانب المعارف العظيمة التي بلغها علماء الهيئة العظام بالترجمة والدرس والرصد والحساب طوال عصور متتابعة.

في هذا العصر الذي قل فيه التأليف في الأزمنة والأنواء على مذهب العرب القدامى نشأ أبو إسحاق ابن الأجدابي ، وألف كتابه في الأزمنة والأنواء ، وهو هذا الكتاب الذي حققناه. وكان كتابه هذا هو الحلقة الأخيرة في سلسلة كتب الأزمنة والأنواء الموضوعة على مذهب العرب. ولم نعرف كتابا وضع بعده في هذا الموضوع.

 

ويضم هذا الكتاب بين دفتيه زبدة علم الأزمنة والأنواء عند العرب في الجاهلية والإسلام ، مضافا إليها فصول من هذا الفن أخذها العرب من الأمم الأخرى التي اتصلوا بها بعد الإسلام. وفصول أخرى مستمدة من علوم الهيئة والنجوم التي نشأت عند العرب بعد الإسلام أيضا. ونظرة نلقيها على فهرس أبواب الكتاب تنبئنا بحقيقة ما نذهب إليه في هذا الشأن. فالباب الثاني فيه مثلا باب (ذكر أيام السنة العربية ، وأسماء شهورها) ، وهو من معارف العرب في الجاهلية من فن الأنواء. والباب العشرون فيه باب (في معرفة سمت القبلة في جميع الآفاق) ، وهو مما حدث في الإسلام من هذا الفن. والباب السابع فيه باب (في تاريخ الروم والسريان وأسماء شهورهم) ، وهو مما أخذه العرب من غيرهم في الأزمنة. والباب الخامس عشر فيه باب (في أوقات الفصول على مذهب أهل الرصد المحدث) ، وهو مستمد من علوم الهيئة والنجوم ، لا ريب.

وقد اتبع أبو إسحاق ابن الأجدابي خطة الإيجاز في تأليف كتابه هذا. فلم يحشر فيه الآراء المختلفة والنظريات المتضاربة حشرا ، ولم يأخذها بحذافيرها ، ولم يذكر تفاصيلها الجزئية الدقيقة. وإنما ذكر منها الخطوط العامة التي تحيط بالقضايا والمسائل الهامة. وعرض الأفكار الأساسية في الأبواب ، في بساطة ويسر ، وفي لغة نقية سهلة ، بعيدة عن التعقيد العلمي. وكأني به قد قصد من وضع كتابه إلى تبسيط فن الأزمنة والأنواء وتقريبه من اذهان جمهور القراء في عصره ، ولم يقصد به كبار العلماء من ذوي الاختصاص. فكان موفقا في عرض أبوابه وفصوله في صورة جميلة محببة إلى النفوس ، فجاء كتابه لذلك مختصرا لطيفا ، يمضي فيه القارئ مضيا سهلا ، دون أن يصطدم فكره بمشكلات العلم الصعبة ، أو يتعثر في مسالكه البعيدة المجهولة.

 

وكتاب ابن الأجدابي هذا ثالث ثلاثة كتب في الأنواء وصلت إلينا مما ألفه علماؤنا القدامى في هذا الفن. والكتابان الآخران هما :

١ ـ كتاب الأنواء لابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦ (١)

٢ ـ الأزمنة والأمكنة لأبي علي المرزوقي المتوفى سنة ٤٢١ (٢).

وقد ألمعنا إلى هذين الكتابين في الصفحات السابقة ، وبينا ، في إيجاز ، قيمتهما ومكانهما بين الكتب المؤلفة في الأزمنة والأنواء. فينبغي لنا هاهنا أن نقول شيئا في قيمة كتاب ابن الأجدابي في تفصيل وفضل بيان.

وقيمة هذا الكتاب متعددة الجوانب : فيها جانب علمي ، وآخر أدبي ، وجانب ثالث لغوي ، ورابع تاريخي.

وتتجلى قيمته العلمية في بيان ما كان معروفا عند العرب في العصر الجاهلي من معارف في الأزمنة والأنواء ، ثم في بيان ما كان معروفا ومستعملا من هذا الفن في البيئة العربية بعد الإسلام إلى عصر المؤلف. وكثير من هذه الأمور التي أوردها المؤلف في كتابه ما زالت معروفة ومستعملة كذلك في أيامنا هذه ، ولا سيما الأمور التي تتصل بالسنين والشهور وفصول السنة على المذاهب المختلفة. وقد أجاد المؤلف حقا في كلامه على الشهور السريانية التي كانت شائعة مستعملة في المشرق العربي في عصر المؤلف ، وفي كلامه على ما يكون فيها من المواسم الزراعية وغيرها. وما زلنا نحن العرب نستعمل هذه الشهور في المشرق العربي إلى اليوم.

__________________

(١) طبع في حيدرآباد في الهند سنة ١٣٧٥ / ١٩٥٦.

(٢) طبع في حيدرآباد في الهند أيضا سنة ١٣٣٢.

 

أما من الناحية الأدبية فالكتاب يفيدنا في فهم كلام العرب الذي ترد فيه أشياء عن الأزمنة والأنواء من أشعارهم وأسجاعهم وأمثالهم في الجاهلية والإسلام ، وهي مبذولة مبثوثة في دواوين الشعراء وفي كتب الأدب واللغة. هذا إلى شواهد الشعر والنثر من كلام العرب التي نثرها المؤلف هنا وهناك في ثنايا كتابه ، مع شرح لألفاظها ؛ وإيضاح لمعانيها ، في أغلب الأحيان.

والباب الأخير من الكتاب ، (وهو باب معرفة الشهور الشمسية وأسمائها عند الأعاجم ، وما يحدث في كل شهر منها من طلوع المنازل أو سقوطها) معرض حافل بأسجاع العرب التي قالوها في الأنواء والأزمنة التي توافق طلوع النجوم الثابتة. وفي هذه الأسجاع جمال أدبي خاص ، غني بالموسيقى ، ينشأ من رشاقة الألفاظ ، وإيجاز العبارة ، وإرنان السجع. مثل قولهم : «إذا طلع الذراع ، كشفت الشمس القناع ، وأشعلت في الأفق الشعاع ، وترقرق السراب بكل قاع». ومثل قولهم : «إذا طلع سهيل ، برد الليل ، وخيف السيل ، وكان لأم الحوار الويل». ولم يهمل المؤلف شرح ألفاظ هذه الأسجاع ، وإيضاح معانيها أيضا.

وأما في اللغة فالكتاب يفيض بالألفاظ الدائرة في موضوع الأزمنة والأنواء كثيرا. ومعظم هذه الألفاظ قد أصبحت من اصطلاحات هذا الفن مع الزمن. ومن استقراء هذه الألفاظ في كتب الأزمنة والأنواء التي وصلت إلينا ، وفي كتب اللغة معا ، ثم من قياس بعضها ببعض بعد ذلك ، يمكن لنا كشف التطور الذي طرأ على مدلولات هذه الألفاظ خلال العصور. وسيكون هذا الاستقرار سبيلا إلى وضع معجم لغوي يضم شتات هذه الألفاظ. كما سيكون هذا المعجم خطوة في سبيل وضع المعجم التاريخي للغة العربية. وما أحوج العرب في نهضتهم الحديثة إلى مثل هذا المعجم.

 

وللكتاب أخيرا قيمة تاريخية. ذلك أنه يفيد الباحثين في مسألة تاريخ العلوم في الحضارة العربية ، ويعتبر مرجعا قيما ووثيقة جيدة في أيدي هؤلاء الباحثين. وهذا إلى أنه يمثل منحى من مناحي الفكر العربي في مرحلة فسيحة من مراحل تاريخه الطويل المجيد.

ومن استعراض هذه الجوانب من قيمة الكتاب يتجلى لنا مدى الفائدة التي يجنيها جمهور القراء من قراءة هذا الكتاب ، بله العلماء من ذوي الاختصاص في الموضوعات التي تمت إلى فن الأزمنة والأنواء بصلة أو صلات ، مثل علم الفلك والجغرافية وعلم التقويم والأرصاد الجوية ، وبله علماء اللغة والأدب والباحثين في تاريخ العلوم والحضارة عند العرب. فاللغوي يجد فيها معيناثرا من الألفاظ والمصطلحات في فن الأزمنة والأنواء. والأديب يجد فيه جلاء لنواح تغمض على فهم كثير من الناس في نصوص الأدب ، ولا سيما الشعر القديم منه. ولسنا في حاجة بعد إلى ما يفيده منه مؤرخو العلوم والحضارة العربية ، بعد ما قلناه آنفا في بيان قيمته التاريخية.

والكتاب مع هذا مرجع لكثير من المعارف التي ما زالت حية متداولة مستعملة في أيامنا الحاضرة. فما زال العرب في جميع أقطارهم ، من المحيط إلى الخليج ، يستعملون السنة العربية ، وهي السنة القمرية التي ندعوها اليوم بالسنة الهجرية. ويستعملون كذلك السنة الشمسية في معظم أقطارهم. والفصول وأوقاتها مثلا من المعارف الأولية البديهية التي لا يسع أحدا من الناس جهلها في حال من الأحوال. وهي مما يتعلمه الناشئة في مدارسهم أيضا. وأسماء الشهور السريانية في

 

بلاد الشام والعراق ، وكذلك أسماء الشهور الرومية في مصر وأقطار المغرب العربي ما زالت مستعملة عند العرب إلى اليوم ، وقد أصبحت ملكا لهم ، لا ينزع منهم إلا الأبد.