تجريم كراهية الأديان والعقائد

18-03-2019
محمود الريماوي

جاءت مذبحة المسجدين في نيوزيلندا الجمعة الماضية لتدل على أن الإرهاب الذي يستهدف المدنيين وأماكن العبادة، بات يمثل خطراً داهماً يهدد البشرية والحضارة الإنسانية وقيم التمدن. ومن دواعي الأسف الشديد أن تراق في كل مرة هنا وهناك في عالمنا المزيد من الدماء البريئة، من أجل التذكير بأن الإرهاب لا دين له، وأنه يناصب العداء للأديان جميعها. ومن المفارقات المقيتة أن يتم استخدام «فوبيا» الإسلام للتغطية على إرهاب يستهدف المسلمين والإسلام، وهو الدين الثاني الذي تعتنقه البشرية، وينتشر في أصقاع الأرض.
واستخدام الدين لأغراض سياسية تتنافى مع مقاصد الدين، عانته شعوب منطقتنا كما عانته شعوب أخرى. وعلى سبيل المثال فإن الحملات الصليبية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر قد جاءت تحت راية الدين بينما، كان هدفها الحقيقي هو التوسع الإمبراطوري وقد استهدفت المسلمين بالدرجة الأولى كما استهدفت غيرهم.
كما عبأت الحركة الصهيونية قواها ومواردها كافة، للاستيلاء على أرض فلسطين مستخدمة مزاعم وتعليلات دينية، وما زالت الدولة العبرية تستخدم جهاراً نهاراً وبالفم الملآن شعارات دينية من أجل الاستيلاء على القدس العربية، ومصادرة المزيد من أرض الآخرين، ولا تتوانى الدولة «الديمقراطية المتقدمة» عن إطلاق حرب دينية ضد غير اليهود، كما يحدث في الانتهاكات الدائمة للمسجد الأقصى، وفي وضع اليد على أملاك المسيحيين في المدينة المقدسة، وفي تهجير هؤلاء من مدينتهم. ومن دواعي الغرابة والاستهجان ألا تلقى هذه الحرب الدينية ما تستحقه من رفض وإدانة.
وهناك الكثير من الشواهد التي تدل على أنه في الوقت الذي مارست فيه قوى متطرفة مسعورة الإرهاب باسم الدين كحال القاعدة وداعش، فإن مسلمين كثراً تعرضوا لأشكال مختلفة من الإرهاب كما حدث في ميانمار مع اقتلاع وتشريد مئات الآلاف من المسلمين والتنكيل بهم في ذلك البلد. وهو ما يدل أن البشرية جمعاء بمن فيها المسلمون عرضة لمخاطر الإرهاب من مصادر شتى، لا يجمعها جامع سوى اعتناق التطرف وشيطنة الآخر، وازدراء الحياة البشرية، ومناوأة التعدد والتنوع الذي يسم الحياة البشرية العصرية.
لقد كان من الطبيعي أن تلقى الجريمة الإرهابية في نيوزيلندا أصداء واسعة شملت الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إذ إنها تدق ناقوس الخطر من تفشي صراعات دينية واسعة في عالمنا تهدد ما أنجزته البشرية من رقي وتمدن على مدى قرون، علماً أن إطلاق هذه الصراعات الدينية لا يستلزم سوى شيطنة الآخرين وربطهم بقوى الشر واحتكار الصواب. بما يمكن معه شحن المراهقين والشبان اليافعين بمثل هذه الأفكار المسطحة، كحال مجرم المساجد في نيوزيلندا الذي لم يتم عامه الثلاثين.
وأمام هذه المحاذير الداهمة، ومع تنوع وسائل الشحن والتعبئة التي تتخذ من وسائل الاتصال الحديثة قنوات ومنابر لها، فإن الحاجة باتت تستدعي وضع تشريعات وأنظمة تجرم نشر مشاعر الكراهية تجاه جميع أبناء الأديان والعقائد بغير استثناء، واعتبار أن بث مثل هذه المشاعر السلبية تجاه دين ما أو معتنقيه مثلاً، إنما يستهدف الأديان والعقائد جميعها. مع ربط ذلك بالحملة على الإرهاب، فلا شيء يغذي هذه الآفة الخطيرة مثل التنابذ الديني وتزكية الذات وتنزيهها، مقابل تأثيم الآخر وأبلسته. إذ من الواضح أن ما تنص عليه الدساتير والقوانين من مبادئ الكرامة والمساواة واحترام حرية المعتقد والحق في العبادة، لم يعد يكفي لمواجهة المخاطر المتفاقمة، وخاصة حينما تنشأ مثل هذه الظواهر في بلدان ومجتمعات متقدمة، فمن كان يتوقع أن تقع هذه الجريمة النكراء في بلد متطور ويتوافر على قوانين متطورة مثل نيوزيلندا ويقوم على التنوع العرقي والديني، ولا شك في أن المجتمع النيوزيلندي بريء من هذه الجريمة الغريبة عن تقاليده الاجتماعية والسياسية. غير أن دواعي المصارحة تقتضي القول إن مجتمعات أوروبية متعددة تتوافر على تيارات اليمين الشعبوي المتطرف التي تجاهر بالعداء لأصحاب العقائد الأخرى، مما يهيئ بيئة «ثقافية» مواتية لظهور أنشطة إرهابية سواء كانت ذات طابع فردي أو غير فردي. وهو ما يحذر منه أوروبيون وغربيون كثر. وخاصة مع محاذير انتقال هؤلاء لتسنّم سلطات تشريعية وتنفيذية عبر صناديق الاقتراع.
يأسى المرء على ضحايا مذبحة المسجدين ممن ذهبوا بعيداً وراء البحار التماساً للرزق والمساهمة في إعمار الأرض، والدرس المستخلص أن نقف جميعاً ضد الإرهاب الأعمى أياً كان مصدره ولبوسه، فالإرهاب لا دين ولا طائفة له.

mdrimawi@yahoo.com