وعي الضرورة التاريخية

18-03-2019
حسام ميرو

ما التاريخ من دون وعيه؟ وما السياسة والاجتماع من دون وعي الضرورة؟ وما التراكم إن لم يكن تراكماً في المعرفة؟ هذه الأسئلة وغيرها هي أسئلة الصيرورة، ففي مستوى الإجابة عنها يمكن تقييم رد الفعل التاريخي-السياسي على احتياجات المجتمعات والدول، وعدم طرح هذه الأسئلة يكشف عن غياب الجدية في التعامل مع الراهن والمستقبل، كما يكشف نقصاً في المعرفة وإرادة المعرفة على حد سواء.
وحتى الانخراط النظري المحض، وعلى أهميته، يغدو هروباً من الانخراط في التاريخ؛ إذ لا انفصال واقعياً في التصدي لقيادة التاريخ بين التنظير والممارسة، إلا بالقدر الذي تفرضه شروط إنتاج المعرفة وشروط الممارسة، لكن وعي الضرورة التاريخية ليس منفصلاً أيضاً عن جملة المصالح لدى الفاعلين السياسيين، أو غيرهم ممن يتصدون للممارسات القيادية في التاريخ، وتطرح المصالح دوماً، نظراً لتبايناتها وتناقضاتها، أيديولوجيات مطابقة لها، من شأنها تزييف المعرفة بضرورات التاريخ، واستبدال حاجاتٍ بحاجات، وهو ما تدفع المجتمعات والدول ثمناً باهظاً له، بعد امتحان الواقع لتلك الأيديولوجيات.
إن وعي التاريخ خاضع لشروط الإنتاج المادية، فثمة فرق هائل في وعي التاريخ بين مجتمعات ودول السوق الرأسمالي وبين مجتمعات الإنتاج الريعي أو الاقتصادات الهجينة، فشكل الإنتاج هو بحد ذاته سمة التراكم التاريخي، بما فيه التراكم المعرفي والعلمي والتقني، كما أن كل منظومة إنتاج تطرح قيمها، وهي قيم مطابقة لعلاقات الإنتاج، وهو ما يجعل من المعرفة، بوصفها أحد أعمدة الإنتاج، سمة المجتمعات ذات الاقتصاديات الحقيقية، والتي لا يشكل الريع فيها نسبة مهمة من إجمالي الإنتاج.
لم يكن ممكناً الانتقال من عصر الثورة الصناعية الثانية إلى عصر الثورة الرقمية من دون تراكم هائل في المعرفة، وفي شروط إنتاج المعرفة، وأيضاً في وعي الضرورات التاريخية، والتي يولّدها التنافس في/ وعلى الأسواق العالمية، ومصادر الطاقة، وقد وجد العالم نفسه، منذ حوالي ثلاثة عقود أمام موجة عولمية كاسحة، تقودها ثورتي التقانة والاتصال، وتعيد تشكيل المفاهيم إلى حد كبير، كما تضع البنى التاريخية ذاتها أمام تحديات جديدة، وفي مقدمتها مفهوم وبنية ودور الدولة.
للمرة الأولى في التاريخ الإنساني تصبح الشركات منافسة للدولة، فإذا كانت الشركات قد أخضعت الدولة الرأسمالية لمصالحها، خلال الثورة الصناعية الثانية، إلا أنها للمرة الأولى تصبح منافسة لها، ومحددة لسياساتها الخارجية بشكلٍ كبير، أما في الاقتصاديات الريعية فالأمر مختلف تماماً، فهي مع موجة العولمة الثالثة أصبحت أمام مأزق وجودها، والذي يتجلى منذ سنوات في مأزق الدول الوطنية ذات الإنتاج الريعي، والتي تحكمها علاقات سلطوية، هي جزء من ماضٍ لم ينته بعد، لكنه غير قادر على إفساح المجال أمام ولادة الجديد.
إن معظم دول العالم العربي لم تتمكن، خلال العقود الماضية، من التحوّل إلى اقتصاديات ليبرالية، لكن لا يعني هذا أنها تمسكت بدور قوي للدولة في تحقيق الرفاه الاجتماعي، بل أن النخب السياسية الحاكمة، بقيت، وإلى آخر رمقٍ فيها، كما في سوريا وليبيا واليمن بشكلٍ خاص، متمسكة بأدوارها الوظيفية الريعية، غير مدركة للتحولات الداخلية فيها، ولمستوى التهتكّات الاجتماعية والمعيشية، ولمستوى التحوّلات العالمية والعولمية على حد سواء، في الاقتصاد والسياسة.
إن ما هو ممكن التحقّق في شروط موضوعية/ واقعية محددة ليس ممكناً في شروط مختلفة أو متناقضة، ووعي التاريخ هو - في أحد أوجهه- وعي بالشروط المنتجة له، فالظروف التاريخية التي سمحت بمجيء النخب السياسية/ العسكرية للحكم في بعض بلدان العالم العربي قد تغيّرت، وإذا سمينا مجازاً تلك الشروط التاريخية بالمشروعية التاريخية، فإن تلك المشروعية التاريخية تداعت، وبالتالي فإن وعي التاريخ يعني الاستجابة لمتغيّراته، وأي محاولة للتنصّل من المتغيرات التي يفرضها التاريخ هي مسألة غير معرفية بالدرجة الأولى، وهي كارثية في نتائجها بالدرجة الثانية.
ومن شأن أي محاولة تنكّر للضرورة التاريخية أن يجر المجتمعات والدول نحو حالات نكوصية يصعب إيجاد مخارج لها، فكما يعلمنا الدرس الطبي البسيط بأن العلاج الناجع هو العلاج الذي يأتي في وقته، كذلك يعلّمنا الدرس التاريخي بأن الاستجابة للتحولات التاريخية في الوقت المناسب يجنب المجتمعات والدول حروباً وويلات وكوارث، لكن الشرط اللازم وغير الكافي هو الاعتراف بوجود المتغيّرات نفسها، والإقرار بأن التحوّل أمر لا مفرّ منه. إن المعالجة المتأخرة في السياسة، أو غيابها، يسقط مناعة المجتمعات، ويظهر أسوأ ما لديها من أزمات، ويعيد إنتاجها في أكثر الأشكال ابتذالاً، من مثل عودة الهويات ما قبل الوطنية، أو الولاء للخارج، أو ظهور التنظيمات الراديكالية، وغيرها.

husammiro@gmail.com