ثمن سياسي تدفعه أمريكا

18-03-2019
عبد الإله بلقزيز

يسلّم السياسيون والمحللون الأمريكيّون، والغربيون عموماً، بأنّ انتخاب دونالد ترامب، رئيساً للولايات المتحدة ، في نهاية العام 2016 يترجم أزمة عميقة في جسم النخب السياسيّة والحزبيْن الرئيسييْن في البلاد؛ إذْ هو أوّل مرشح يأتي إلى سدّة البيت الأبيض من خارج البيئة السياسية الحزبيّة ويهزم خصومه الحزبيّين؛ من داخل «حزبه» ومن الديمقراطيّين. أمّا خوضه المنافسات باسم «الحزب الجمهوريّ» فينتمي إلى حل تسوويّ بينه والحزب، يحظى فيه المرشح بغطاء حزبيّ، ويستُر به الحزبُ عورته السياسية التي تبيّنتْ مع عجزه عن تقديم مرشح منه أقوى لمواجهة هيلاري كلينتون، مثلما يستفيد من ريع فوزه في الوقت عينِه.
ونذكر جميعاً أنّ «الحزب الجمهوريّ»، حينها، انقسم على نفسه بمناسبة هذه «النازلة»: هل يمنح التزكية لمرشح من خارج الحزب - له حظوظ في الفوز- أم يحجبُها عنه فيغامر بفقدان منصب الرئاسة. ولقد كان الحزب على شفا الانشقاق في لحظة من اشتداد الخلاف على ترامب، ممّا يتأكّد معه أنّ قسماً كبيراً منه شكك في ولاء المرشّح للحزب، وأنّ الحزب يشهد، برمته، على أزمة فيه- نظيرَ التي كانت في «الحزب الديمقراطيّ» أو أكثر، لم يكن يملك حلَّها، كما لم يكن في وُسع دونالد ترامب أن يكون عنواناً لحلّها.
تبيّنتْ، على الفور، تبعاتُ انتخاب مرشح للرئاسة من خارج البيئة السياسيّة. وهي تبيّنت على أكثر من صعيد: طريقة التصرّف في إدارة شؤون الدولة؛ نمط العلاقة بمؤسسات الدولة الفيدرالية (السياسيّة والسياديّة)؛ كيفيّة اتّخاذ القرارات؛ كيفيّة الإعلان عنها ومخاطبة الرأي العام؛ طريقة التعيينات والإقالات؛ العلاقة بالعالم الخارجيّ والمشكلات الجديدة التي تولّدت منها... إلخ. في بحر عاميْن من ولايته، فقط، عاين الأمريكيّون كيف أنّ نظامَهم السياسيّ الذي ألِفُوه، لعقود، يتبدّل بسرعة عنيفة فتحُلّ فيه قيم جديدة وأساليبُ جديدة، وتتبدَّد فيه تقاليدُ العمل المؤسسي العريقة، وتتنامى فيه منازع المزاجيّة والتفرّد واللامبالاة بالمؤسسات والشركاء الآخرين. عاينوا، أيضاً، كيف أنّ سياسات بعينِها، ليست محط إجماع أو توافُق، تورِّط دولتَهم في مشكلات مع المحيط الإقليميّ والعالم الخارجيّ، والحلفاء خاصّة، وتُفْقِرها من الصّدقيّة السياسيّة، وتُحدِث الهلع في الأسواق الماليّة العالميّة والمنظمات الدوليّة... إلخ. ولم يكن مَأْتى هذه الانتقادات من المعارضة الديمقراطيّة ووسائل الصّحافة وأجهزة الإعلام المناوئة لسياسات ترامب والفريق الحاكم، فحسب، بل كان مَأْتاها من نواب وشيوخ جمهوريّين في المجلسيْن أيضاً؛ الأمر الذي يوحي بأنّ الولايات المتحدة تدفع، اليوم، ثمن موافقتها - الاضطراريّة - على انتخاب رئيس للبلاد من خارج النخبة السياسيّة والحياة السياسيّة.
والحقّ أنّ إدارة ترامب أدخلت عادات جديدة غيرَ مؤسّسيّة وغيرَ مألوفة في عمل النظام الأمريكيّ؛ من قبيل مخاطبة الأمريكيّين، وإعلان المواقف الرسميّة، عبر تغريدات «تويتر»؛ وعدم استشارة المؤسّسات السياديّة، مثل البنتاغون، في قرارات تتعلّق بالشأن العسكريّ؛ والضغط على المعارضة في الكونجرس لقرار إقامته جداراً مع المكسيك بإعلان الإغلاق الحكوميّ الجزئيّ؛ وقبل ذلك إقالة جيمس كومي من إدارة «مكتب التحقيقات الفيدراليّ»- خرقاً لعادة عدم تدخّل رؤساء أمريكا في عمل ال F.B.I
- من أجل عرقلة التحقيق حول الاختراق الروسيّ لانتخابات العام 2016؛ ثم التضييق على عمل المحقّق الخاصّ روبرت موللر والحملة المستمرّة ضدّه..إلخ.
على النحو نفسه أتت إدارة ترامب سياسات خارجية أزعجت المجتمع السياسي الأمريكيّ، ورفعت من معدّل المعارضة وجمهورها الحزبيّ والاجتماعيّ. من ذلك، مثلاً، قرار وقف تدفّق الهجرة على مجتمع تشكل أصلاً، من المهاجرين وإقامة جدار عازل مع المكسيك؛ وقرار الانسحاب من بعض الاتفاقيّات الاقتصاديّة الإقليميّة؛ وقرار الانسحاب من اتفاق الحدّ من الأسلحة النوويّة (الذي وقِّع مع الاتحاد السوفييتي في العام 1988)؛ والتهديد بالانسحاب من حلف الناتو؛ والهجوم المستمرّ على الاتحاد الأوروبيّ (فرنسا وألمانيا خاصّة) وإساءة العلاقة بدوله؛ والتصعيد مع روسيا في موضوع الصواريخ المتوسطة؛ ونقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس والاعتراف بها عاصمة ل«إسرائيل»، والترتيب للانسحاب من أفغانستان وتسليمها لطالبان؛ وترك الحلفاء الكرد السوريّين بين أشداق الجيش التركيّ والتهديد بغزو فنزويلا ...؛ وهي جميعُها قرارات ومواقف لم تُخْفِ المعارضة الديمقراطيّة والإعلام الأمريكيّ أنها تسدد ضربة لسمعة أمريكا في العالم وصدقيتها أمام حلفائها وأصدقائها؛ الذين تخلّت عنهم تِباعاً في كلّ مكان.
لا عجب، إذن، إنْ كانت شعبيّة الرئيس هبطت، في استطلاعات الرأي، إلى ما دون الأربعين في المئة (في سابقةٍ أولى مقارنةً بشعبيّة أيّ رئيس أمريكي في النصف الأوّل من ولايته!). ولا عجب، إذن، إن أدى استطلاع للرأي - في آب/أغسطس 2018- إلى نتائج مخيف منطوقُها: 75% من المستطلعة آراؤهم لا يثقون بالدولة وسياسيّيها ، و53% يعتقدون أنّ الدولة ومؤسّساتها «لا تحظى بدعم الشعب وتأييده» ! هل هي عثرة في النظام قاد إليها صعودُ ترامب وفريقه الحاكم، أو هي بداية الإيذان بالتحول الدراماتيكي في النظام الأمريكيّ إلى حال من التأزّم مديدة؟

abbelkeziz@menara.ma