«نهاية التاريخ» والديمقراطية الليبرالية

15-03-2019
د. محمد الصياد

ثلاث أزمات تعرضت لها ثلاث دول كبرى قيادية في الغرب الليبرالي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. الأزمات بدأت في الدول الثلاث في فترة زمنية متقاربة، بدأت في بريطانيا بقنبلة نتيجة استفتاء خروجها من الاتحاد الأوروبي «بريكست» في 23 يونيو 2016، تلتها فرنسا بحراك «السترات الصفراء» في السابع عشر من نوفمبر 2018، قبل أن يجيء الدور على الولايات المتحدة، بدخول أجهزة الدولة الأمريكية، اعتباراً من 22 ديسمبر 2018، في عطلة استمرت 35 يوماً.
الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ الإغلاقات الحكومية في الولايات المتحدة، نتج عن تنازع سلطات ومصالح قطبي السلطة، الحزب الجمهوري الذي يحوز كرسي الرئاسة وأغلبية بسيطة في مجلس الشيوخ ، والحزب الديمقراطي الذي يتمتع بأغلبية بسيطة في مجلس النواب. الأزمة لم تنته رغم نجاح الديمقراطيين، مؤقتاً، في إجبار الرئيس على رفع الفيتو الذي كان وضعه على الموازنة ما لم يوافق الديمقراطيون على تمويل «جداره» المكسيكي بمبلغ 5.7 مليار دولار. فهو عاد وفرض حالة الطوارئ التي تعطيه الحق في استقطاع المبلغ الذي يريده. والآن هناك معركة حامية دائرة بين «الديكة»، الجمهوريين والديمقراطيين، حول مدى دستورية قرار الرئيس فرض حالة الطوارئ.
في فرنسا أيضاً، مازال حراك «السترات الصفراء» مستمراً ومحتفظاً بزخمه الأسبوعي المتواصل رغم تراجع أعداد المشاركين فيه، وما زالت المدن الكبرى منخرطة فيه على الرغم من كل التهوين الذي يمارسه الإعلام السائد، وعلى الرغم من لجوء رئيس البلاد، كعادته، للهروب إلى الأمام، داخلياً بإعادة توجيه وجذب اهتمام الرأي العام على مبادرة وطنية للحوار المجتمعي بشأن أزمة البلاد، وخارجياً بالظهور بمظهر الزعيم الأوروبي الحريص على المحافظة على كيان الاتحاد الأوروبي باقتراحات ومبادرات متوالية ليس لها أي نصيب من التأييد من جانب غالبية أعضاء المجموعة التي بدأ عدم اليقين بشأن مستقبل الاتحاد يتسلل إلى تفكيرها.
بدوره يتجه مأزق «البريكست» في بريطانيا لمزيد من التعقيد، لدرجة أن البرلمان رفض مجدداً التعديلات الحكومية على الاتفاق، كما أن صبر الإيرلنديين في بلفاست بدأ ينفد، وحجم الغضب راح يعتمل في نفوسهم، على ما يعتبرونه «غباءً إنجليزياً فاحشاً»، يمكن أن تكون له عواقب وخيمة. ناهيك عن فقدان الإنجليز للبوصلة على ما هو ظاهر. فعوضاً عن التركيز على مشكلة خروجهم الفوضوي من الاتحاد الأوروبي، تراهم منهمكين في محاربة زعيم حزب العمال جيرمي كوربين واتهامه بمعاداة السامية، فقط لأنه أشجع منهم في انتقاد «إسرائيل» وانتقاد لوبياتها البريطانية، داخل البرلمان وفي السلطة وفي الإعلام. بذهنية البحث الممنهج، فإن المتابع الحصيف للداخل العميق النافذ لجزئيات وتفاصيل ما تمور به الساحات الثلاث، في اتصال ذلك بطبيعة الحال بالأزمات الثلاث التي تجتازها أنظمة ومؤسسات الحكم فيها، سيجد أن هذه الأزمات ليست مقطوعة البتة عن الطبيعة العتيقة والمتقادمة لهيكلية مؤسسات وأنظمة الحكم في كل منها، وتراتبيتها التي تحتكرها وتتقاسم مواردها وامتيازاتها حفنة من كبار جبابرة المال والأعمال ومندوبيهم الأثرياء المزروعين على امتداد رقعة مؤسسة الحكم وإداراتها الرئيسية والفرعية. ولهذا دلالاته العميقة بالتأكيد، والتي من بين مفاداتها، أن الديمقراطية الليبرالية بنسختها الحالية المتكرسة منذ حوالي ثلاثة أرباع القرن، قد انتهى تاريخ صلاحيتها، وأنه قد آن الأوان لكي تستعيد المؤسسات التشريعية سلطتها وتفويضها من سلطة الرئاسة في هذه البلدان التي تنفرد بقرارات مصيرية تبدأ بتقرير مستوى الضرائب ولا تنتهي بإدخال البلاد في حروب، بعضها سري، وكثير منها من دون تفويض؛ وأن يكون لشعوب هذه البلدان ممثلوها الحقيقيون في هذه المؤسسات، وقولها الفصل في تقرير اتجاهات السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وأن يتم التخلص من ظاهرة جماعات الضغط والمصالح (اللوبيات) التي تمثلها الشركات الكبرى وصناعات السلاح وصناعات البترول والطاقة، والتي أفقدت الديمقراطية الليبرالية مضمونها، ووضع ربما خاتمتها التاريخية.

alsayyadm@yahoo.com