سوريا والمشهد الأفغاني

15-03-2019
د. محمد السعيد إدريس

روايات الحروب مملوءة بالمآسى والمحن، كما هي مفعمة أيضاً بملاحم الانتصارات والبطولات، وها نحن نعيش، وللمرة الثانية، بعض ما سبق أن عشناه في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، والسنوات الأولى من الألفية الجديدة. مشاهد بعض ما حدث في أفغانستان، وما عُرف ب«حروب المجاهدين»، ومآسيهم تعود الآن لتتكرر في سوريا. العائدون من سوريا بعد العائدين من أفغانستان. أناس عاديون، شباب في عمر الزهور جرى التغرير بهم تحت دعوى وأكاذيب الجهاد. مع غياب الوعي والثقافة الوطنية، وتبعثر الحلم والأمل بأوطان عزة وكرامة، وجد الآلاف من الشباب العربي، وأمثالهم من دول أخرى إسلامية، أنفسهم ضحايا للحلم الآخر، حلم الشهادة عبر «الجهاد»، وحلم النصر في دولة المجاهدين، بشرت به أجهزة دعائية مغرضة وممولة، ساقت كل هؤلاء للقتال في أفغانستان ضمن تنظيم «القاعدة» لمقاتلة الكفار «السوفييت» الذين غزوا دولة أفغانستان المسلمة.
ما زلت أتذكر خطيب الجمعة في أحد المساجد جاء زائراً لا يشغله غير هدف واحد هو تحريض الشباب على الانخراط في سلك «المجاهدين» والرحيل إلى أفغانستان، حيث ينتظرهم «النصر أو الشهادة». ولمزيد من التحفيز وجدنا الرجل يعلن بصوت مفعم بالشجن «كم هو سعيد لأن ابنه مات في أفغانستان، وأنه يحمد الله على أنه لم يقتل في فلسطين».
إلى هذا الحد كان التغرير بالشباب للدفع بهم في أتون الحرب في أفغانستان التي كانت تقودها وتشرف عليها الولايات المتحدة الأمريكية في صراعها ضد الاتحاد السوفييتي في «المستنقع الأفغاني»، وما هي إلا سنوات معدودة، بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، حتى نشبت الصراعات الدموية بين «أمراء الحرب الأفغانية» في الوقت الذي توقف فيه الدعم الخارجي ل«المجاهدين» بعد انتهاء سبب دعمهم برحيل السوفييت عن أفغانستان، ووجد «المجاهدون» أنفسهم ضحايا هؤلاء وهؤلاء، أمراء الحرب ومموليهم، وعندما قرروا العودة إلى بلادهم كانت صدمتهم الكبرى، أنهم «لم يعودوا مجاهدين، بل إرهابيون ممنوعون من دخول بلادهم، بل ومطلوبون للعدالة أمام محاكمها».
المشهد يكرر نفسه للمرة الثانية الآن، حيث يواجه العائدون من سوريا مصير من سبقهم من العائدين من أفغانستان، بعد أن تكدست أعدادهم في معسكرات اعتقال في شمال سوريا، عقب انهيار تنظيم «داعش»، وفرار زعيمه «أبو بكر البغدادي» .
ظاهرة «العائدين من سوريا» التي تختصر كارثة عشرات الآلاف من الذين كانوا قبل أشهر قليلة «مجاهدين»، و«ثواراً» وفجأة تحولوا إلى «إرهابيين» ومنبوذين في أعين وإعلام من غرروا بهم وحفزوهم ومولوهم وأدخلوهم إلى سوريا للجهاد، سوف تفرض نفسها بقوة خلال الأسابيع، أو الأيام القليلة المقبلة، عندما تتمكن ميليشيات «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة أمريكياً، ومن التحالف الدولي، من تصفية آخر جيوب «داعش» على الأمتار المتبقية للتنظيم الإرهابي في الضفة الشرقية لحوض الفرات في «الباغوز»، عندها سوف يتكدس الآلاف من هؤلاء الإرهابيين وعائلاتهم لدرجة ربما لا تستطيع قوات سوريا الديمقراطية السيطرة على معسكرات إيوائهم، ما يمكن أن يتيح الفرصة لهؤلاء للهروب في البادية السورية، ومنها يمكنهم التحول إلى «خلايا نائمة» في أي تربة خصبة لنمو الإرهاب، وعندها تتجدد، وتتكرر الكارثة.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، طرح «مبادرة» عبر حسابه على «تويتر» دعا فيها الدول الأوروبية لاسترداد رعاياها من «الجهاديين» المعتقلين لدى «قوات سوريا الديمقراطية»، لكن اللافت في هذا الخصوص أنه يرفض رفضاً قاطعاً عودة أي من «الدواعش» الأمريكيين، أو عائلاتهم الموجودين في معسكرات الإيواء في شرق الفرات إلى الولايات المتحدة. وكتب بهذا الصدد تغريدة على «تويتر» مفادها أنه «أعطى التعليمات إلى وزير الخارجية مايك بومبيو، بعدم السماح لهدى مثنى (عروس «داعش» الأمريكية من أصل يمني) بالعودة إلى الولايات المتحدة».
يبقى السؤال الأهم وهو: كيف ستتصرف الدول العربية بدورها مع هذه الظاهرة، وهي المؤهلة لتكون «بيئة حاضنة» ل»داعش جديد»، وهل ستتكرر مشاهد «العائدين من أفغانستان» بالنسبة إلى «العائدين من سوريا»، وتظهر بعد سنوات قليلة «قاعدة جديدة» و«داعش» جديد، ضمن مخطط جهنمي يرمى إلى تحويل العالم العربي إلى «مكب نفايات العالم من الإرهابيين» وكي تبقى الحرب على الإرهاب المهمة المقدسة التي تتراجع أمامها مهام بناء الأوطان والنهوض بها؟

mohamed.alsaid.idries@gmail.com