«البقجة»

11-03-2019
يوسف أبولوز

رواية الفلسطيني لها أكثر من منبع، والمصبّ واحد: الإنسان والأرض؛ الإنسان الذي يُصرّ على حريته، والأرض التي تُصرّ على تاريخها وجغرافيتها. أما منابع أو ينابيع الرواية فيعرفها الأطفال قبل الكبار: الهجرة، والنزوح، والمخيم.. ولهذا الأخير فضاء واسع من المكونات الصغيرة التي تشكل في النهاية صورة مكثفة للمنبع وللمصب، ومن هذه المكونات «البقجة».

«البقجة» هي «صرّة» من القماش تُعمل على شكل حقيبة من الخيش، وكانت وكالة الغوث الدولية «الأونروا» تُرسل لأهالي المخيمات هذه «البقج» التي تحتوي سترات من القماش، ومن الجلد أحياناً، وقد يعثر الفلسطيني في بقجته على حذاء جيد، أو لفة من القمصان أو أحزمة، وجوارب أو معطف أو حتى حقيبة.. كل ذلك يمكن أن يكون في «بقجة» واحدة، ثم أنت وحظّك.

يوم تسليم «البقج» في المخيمات كان أشبه بيوم عيد، وكان هذا العيد يأتي مرة واحدة في العام، ومن عام إلى عام، على الفلسطيني أن ينتظر حذاء أو قميصاً أو سترة، والمحظوظ من يعثر في بقجته على سترة من الجلد.

تلك الثياب هي ثياب الآخرين التي يرتديها الفلسطيني سعيداً بهذه الهدية الأوروبية التي سافرت ربما في طائرة، أو في باخرة أو في شاحنة لكي تستقر في مخيم، ويتوزعها مهاجرون فلسطينيون لديهم هم ثيابهم، ولكن لا بأس بثياب كان يرتديها الإنجليزي أو السويسري أو الهولندي، حتى لو كانت قديمة أو مستعملة.

مع مرور الأيام اختفت «البقجة» لأمر ما، فما عادت «الأونروا» التي تُهدد الآن، بقطع خدماتها عن مدارس فلسطينيي المخيمات في الأردن، وفلسطين ولبنان وسوريا، ليبقى أبناؤهم بلا تعليم تُرسل تلك الهدية العابرة للحدود. وأكثر من ذلك اختفت مع الأيام أكياس الطحين المكتوب عليها بخط عريض أزرق: «ليس للبيع ولا للمبادلة»، كما اختفى السردين والسمن الأصفر الثقيل ذو الرائحة الثقيلة أيضاً، وبدا منذ سبعينات القرن العشرين، كما لو أن الفلسطيني أخذ يعتمد على ذراعه، ويصنع له «بُقجاً» خاصة به، وبوسعه أيضاً أن يشتري «جاكيتات» الجلد الغالية، حتى لو اشتراها من سوق «البالة»؛ سوق الملابس البالية.

دخلت «البقجة» على نحو قليل وعابر جداً، في الأدب الفلسطيني؛ إذ يروي محمد طملية في إحدى قصصه القصيرة، حكاية طفل في العاشرة من عمره يعجز والده عن شراء حذاء له بعد اهتراء حذائه تماماً، ويعثر الطفل على حذاء جديد في «البقجة»، ولكنه أكبر من مقاس قدمه، وهكذا لأن الحذاء كبير، سيغوص الطفل في الطين بقدمه الصغيرة وحذائه الجديد، ليعود باحثاً عن حذائه المهترئ القديم.

يحب الفلسطيني الثياب والخبز والطعام، كأي إنسان عادي وطبيعي على وجه هذه الأرض، ولكنه يحب التعليم أكثر.

yabolouz@gmail.com