أزمة على ضفاف البوسفور

11-03-2019
يونس السيد

ما بين تحالف تركيا مع واشنطن وانتمائها لحلف «الناتو» وتقاربها مع موسكو في إطار شبكة معقدة من الحسابات والمصالح المشتركة والمطامع الإقليمية، ثمة مساحة واسعة لظهور سلسلة من الأزمات. ليست أزمة صواريخ «إس 400» الروسية أولها وقد لا تكون آخرها، طالما أن أنقرة لا تزال تبحث عن هويتها الضائعة على ضفتي مضيق البوسفور، ما بين الانتماء للغرب والقارة العجوز أو العودة إلى الشرق الأوروبي والآسيوي.
قد يكون الدور المبالغ فيه الذي تريد أن تلعبه أنقرة، والأطماع التوسعية في الإقليم، وهي في الحقيقة عدوان مباشر على دول الجوار، سعياً وراء إحياء الإمبراطورية العثمانية الغابرة، وهو دور أكبر كثيراً من السقف المسموح به، سبباً غير مرئي في نشوء هذه الأزمات، وعندما يكون الطموح على هذا النحو فإنه غالباً ما يقتل صاحبه. وفي كل الأحوال، ليس ما يمكن تسميته «أزمة الصواريخ» الناجمة عن إصرار أنقرة على تنفيذ صفقة صواريخ «إس 400» الروسية، وتجاهلها للتحذيرات الأمريكية المتعاقبة، هو السبب الوحيد لتأزيم العلاقات بين الجانبين، فقد كان الموضوع الكردي حاضراً منذ البداية ليكون بنداً خلافياً على جدول أعمال كل اللقاءات التي جمعت مسؤولي الطرفين، الأمر الذي انعكس أيضاً على العلاقات مع التحالف الدولي، ووصل إلى حد التهديد بإغلاق قاعدة «انجرليك» العسكرية التي تستخدمها قوات التحالف في جنوب شرقي تركيا.
ورغم كل المحاولات التي سعت إلى وقف المطامع التركية في اجتياح المناطق الكردية شرقي الفرات، إلا أن الحشود التركية على الحدود الشمالية لسوريا، وإصرار أنقرة على أن تكون «المنطقة الآمنة» المقترحة تحت إدارتها حصراً، وضع الإدارة الأمريكية تحت الضغط، كأن تتخلى عن حلفائها الأكراد الذين شكلوا رأس الحربة في قتال تنظيم «داعش»، وتضعهم لقمة سائغة في فم الوحش التركي، الذي يعتبر مقاتليهم «إرهابيين»، وبالتالي تفقد هيبتها ومصداقيتها تجاه حلفائها وربما دورها في المنطقة بأكملها، ما دفعها بالتالي إلى تعديل خطط انسحاب قواتها من سوريا.
هذا الواقع أزعج أنقرة، الطامحة لاحتلال شرقي الفرات وضمه لاحقاً إلى تركيا، ودفعها بدورها إلى تحدي واشنطن والإصرار على الصفقة الروسية. لكن ذلك لن يكون بدون ثمن، إذ وجدت أنقرة نفسها بين نارين، إما الحفاظ على شبكة مصالحها الاقتصادية والسياسية مع موسكو، وهي مسألة في غاية الأهمية لتحقيق خططها وأهدافها التوسعية عبر استغلال انخراطها في مساري «آستانا» و«سوتشي»، وإما مواجهة الغضب الأمريكي الذي انفجر أخيراً بالفعل عبر تهديدات أطلقتها واشنطن في وجه أنقرة بمواجهة عواقب خطيرة في حال استكمال الصفقة الروسية، أقلها إلغاء صفقة طائرات «إف 35»، وهي الأحدث أمريكياً، علاوة على منظومة صواريخ «باتريوت» الدفاعية، قبل أن يتدخل حلف «الناتو» ويحذر أنقرة، على لسان قائده الأعلى الجنرال الأمريكي كورتيس سكاباروتي، بأنه في حال اشترت تركيا صواريخ «إس 400»، فإن «الحلف لن يسمح لطائرات إف 35 بالتحليق بوجود منظومة روسية مضادة للصواريخ»، ما يعني أن على تركيا الاختيار، ولا يبدو أن التذاكي سيخدم أنقرة في محاولة الحصول على «إس 400» و«إف 35» معاً، الأمر الذي سيبقي الأزمة مفتوحة تماماً كما هي حال أزمة البحث عن الذات.

younis898@yahoo.com