شيء ما يتفكك

11-03-2019
محمود الريماوي

«الحزب الديمقراطي أصبح معادياً ل«إسرائيل» واليهود» العبارة نطق بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولم ينطق بها صهيوني متطرف. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض فقد اعتاد شطر كبير من الناس سماع آراء غريبة من الرئيس. والرأي الجديد خرج به يوم الجمعة 8 مارس الجاري، وقد تصادف الإعلان عن هذا الرأي مع إعلان وزيرة القوات الجوية هيذر ويلسون،.. قرارها بالاستقالة من منصبها في مايو المقبل، وكذلك مع إعلان البيت الأبيض أن مدير الإعلام فيه بيل شاين قد تقدم باستقالته من منصبه.. وكان شاين مديراً لمحطة «فوكس نيوز» وصديقاً للرئيس ترامب.
ليست الوزيرة التي قررت الاستقالة ولا المدير الذي أعلن استقالته، عضوين في الحزب الديمقراطي، ولكن النائبة الشابة ألهان عمر ذات الأصل الصومالي هي التي تنتمي للحزب الديمقراطي. هذه النائبة تنتقد الضغوط على ممثلي الشعب لحملهم على التأييد الدائم والتلقائي لدولة الاحتلال «الإسرائيلي»، وقد ذكرت ما هو أكثر وأوضح من ذلك حين قالت إن «لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية» (آيباك)، تمول «مسؤولين سياسيين أمريكيين ليكونوا مؤيدين ل«إسرائيل»».
وبالطبع لا يمكن أن يمر تصريح كهذا، من دون ردود فعل ساخطة، علماً بأن درجة الغضب تكشف بين ما تكشفه، عن الولاء الأوتوماتيكي للدولة العبرية، وكان أن أبدت النائبة اعتذارها بعد أن اتسعت حملة الاعتراض عليها وبعد ضغوط عليها هذه المرة من داخل الحزب الديمقراطي، وبالذات من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.. وقد قام إثر ذلك عدد من النواب الديمقراطيين بإعداد صيغة بيان يندد بالكراهية.. وقد تم الشروع في إعداد البيان، الذي كانت هناك موافقة مبدئية عليه، فيما حرص عدد من النواب على توسيع دائرة رفض الكراهية بحيث لا يقتصر على الرد الضمني على النائبة، وإنما يشمل مختلف أشكال التمييز والكراهية ذات الصلة بمجريات الحياة الأمريكية. وهكذا صدر البيان يحمل إدانة ل «الكراهية والتعصب ومعاداة السامية والتمييز ضد المسلمين والأقليات». ولا شك في أن بياناً أو قراراً بهذه الصيغة وهذا المضمون يحمل بالفعل قدراً من التوازن. غير أن البعض شاء أن يكون القرار قاصراً على إدانة معاداة السامية، وذلك في سياق اعتبار كل نقد للدولة العبرية على أنه يمثل مظهراً من مظاهر معاداة السامية! وما يعني أن دولة الاحتلال وخلافاً لكل دول العالم، هي خارج النقد وفوق كل نقد.
وقد انبرى ترامب لوصف قرار الكونجرس بأنه «مشين»، لأن القرار ساوى في إدانته كل تمييز أو كراهية بين مكونات أمريكا من اليهود والمسلمين والأقليات. ولدواع انتخابية وفي سياق التنافس المحموم بين الحزبين الكبيرين: الجمهوري والديمقراطي، لم يتردد ترامب في وصف الحزب الديمقراطي المنافس بأنه «أصبح معادياً ل«إسرائيل» واليهود». وهو رأي يجافي الواقع، فالديمقراطيون شأنهم شأن الجمهوريين يوالون الدولة العبرية، وكل ما في الأمر أن بعض الديمقراطيين يوجهون أحياناً بعض النصائح لتل أبيب، لكي تخفف من غلوائها وكي تحد من موجات التطرف فيها، وذلك من باب الغيرة والحرص. وهو موقف يقفه بحالات نادرة بعض الجمهوريين مثل جورج بوش الأب الذي «أرغم» رئيس الوزراء اسحق شامير عام 1992 على الانضمام إلى مؤتمر مدريد للمفاوضات العربية «الإسرائيلية». وهو ما حدث بالفعل.
لقد أدى الجنوح للمبالغة الشديدة إلى إصدار مثل هذا التصريح المتعلق بالحزب الديمقراطي، والذي تنكره الشواهد والقرائن التي يحفل بها الأرشيف والتي يعرفها كل متابع. وهو أمر يستوقف المرء أن يخرج الرئيس عن طوره، وأن يردد آراء لا صلة لها بالواقع.. علماً بأن الجهر بالتأثير الهائل للجنة الشؤون العامة الأمريكية -«الإسرائيلية» (آيباك) في السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين ليس بجديد، ولا يكشف سراً، وإذا لم يكن من حق نائب ما أن يجهر بالوقائع ويعبر عن رأيه حيالها في إطار الحرص على المصالح العامة كما يفهمها النائب، فمن يتمتع إذن بهذا الحق في «دولة الديمقراطية»؟ وكيف تكون الحال بعد التراجع الذي أقدمت عليه النائبة في فبراير الماضي؟ ذلك يدل على أن المشكلة ليست مع تلك النائبة بل مع الكونجرس نفسه، ومع الحزب الكبير المنافس.
إن شيئاً مهماً يتفكك في تقاليد الحياة السياسية الأمريكية، وذلك مع اقتحام البيت الأبيض لحلبة منازعات مع مسؤولين في مختلف المواقع، ومع الكونجرس، ومع الصحافة، ومع حزب كبير كالحزب الديمقراطي الذي يتقاسم مع الجمهوريين التمثيل النيابي، وقد حظي أكثر من مرة بثقة الأمريكيين ووصل مرشحوه إلى البيت الأبيض.

mdrimawi@yahoo.com