كبار على دروب الآلام

10-03-2019
يوسف أبولوز

بعض الكتّاب والأدباء والفنانين كانت حيواتهم، ولنستعر الوصف من تولستوي، دروباً من الآلام، لا بسبب فشل في حب أو في زواج، بل كانت صحة هؤلاء مصدر شقائهم أو أحزانهم، ومع ذلك، عاشوا كباراً، وكتبوا كباراً بأرواحهم الإنسانية الحرّة وإراداتهم الأسطورية، وبالإرادة فقط، انتصروا على الألم، بل شقوا في الآلام دروباً نحو الأمل والحياة.

أنقل لك هذا المشهد الذي كتبه الإعلامي عبدالوهاب قتاية يصف فيه صحة حمد الجاسر 1907-2000 يقول «في الطريق إلى بيته في الرياض، كانت تتزاحم في ذهني صور كثيرة رسمتها له قراءتي عنه وله.. صورة طفل وُلِدَ ضعيف البنية، فلم يحسن المشي إلاّ بعد السنة الرابعة من عمره، وعانى في صباه الأمراض، وتركت محاولات علاجه بالكيّ بالنّار نقوشاً كثيرة على جسده، وشارف على الموت حتى حفروا قبره أربع مرّات».

ولكن ذلك الفتى الذي حفروا قبره أربع مرّات عاش ثلاثة وتسعين عاماً، وحمل لقب علّامة الجزيرة العربية، وأسس واحدة من أنجح المجلات الاجتماعية والسياسية والثقافية في منطقة الخليج العربي وهي مجلة «اليمامة» في عام 1963، وتصدر حتى الآن حاملةً روحه الإنسانية العالية.

وسيكون الجاسر علماً من أعلام التاريخ والسيرة والأنساب والصحافة والثقافة، وعضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو موقع لا يحتله آنذاك إلا الكبار.

«قيصر» القصة القصيرة في روسيا، إن جاز الوصف، أنطوان تشيخوف كان يعاني مرض السل، والمفارقة هنا، أنه طبيب، وكان يقول «الطب زوجتي، والأدب عشيقتي». ومن بين مكوّنات شخصيته الأدبية المسرح، ومن أعماله المسرحية «إيفانوف»، و«غابة الشيطان» و«بستان الكرز»، وإذا كان القصّاصون الرّوس وغير الرّوس قد خرجوا من معطف جوجول، فهو له أكثر من معطف، وإن بأسماء مختلفة:الراهب الأسود، السهوب، حورية البحر، قناع، ولنلاحظ هنا أن هذه العناوين صدرت لتشيخوف قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً.

الطبيب المريض ذاك عاش أربعة وأربعين عاماً، وإلى اليوم لا يصحّ أن يطلق النقّاد صفة قاص على كاتب هذا الجنس الأدبي إن لم يكن قد شرب تشيخوف قاصّاً ومسرحياً وإنساناً بالغ الشفافية، تلك الشفافية التي كانت تدفعه عن طيب قلب لمعالجة الفقراء مجاناً.

كان آرنست همنجواي صيّاداً، ومراسلاً حربياً، وملاكماً قويّ البنية، ولكن كانت نوبات الصرع تطرحه أرضاً أو تسبب له الكآبة، ربما الكآبة ذاتها التي أفضت به إلى الانتحار ببندقية، ولكن هذا الرجل الذي يبدو قوي الشكيمة، كما يقولون، وذهب إلى هذا المصير الانتحاري، ترك للذاكرة الثقافية العالمية «العجوز والبحر» الحية حتى اليوم عند كل من يقرأ ويكتب الرواية.

عملاق روائي آخر هو دوستوفسكي.. من «بيت الموتى»، إلى «الإخوة كارامازوف»، وليس انتهاءً بالجريمة والعقاب، كاتب من ذلك الزمان، وكاتب من هذا الزمان.وكان الصرع عندما يلمّ به يطرحه أرضاً.

yabolouz@gmail.com