ماكرون بين معاداة السامية ومناهضة الصهيونية

10-03-2019
د .غسان العزي

أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون، مساء العشرين من الشهر المنصرم، بعد اتصال هاتفي بنتنياهو، وأمام ممثلين للمؤسسات اليهودية في باريس، أن «معاداة الصهيونية هي شكل حديث من معاداة السامية»، واعداً بأن تبني بلاده في قوانينها وتشريعاتها تعريفاً لمعاداة السامية مطابقاً لذلك. وقد برر قراره هذا بالحوادث التي تكررت مؤخراً في فرنسا، إذ هاجم متظاهرون على هامش مسيرة لحركة «السترات الصفراء» المفكر ألان فنكلكرو، العضو في الأكاديمية الفرنسية، ونعتوه بال»صهيوني».
وتفيد أرقام رسمية بأن الممارسات المعادية للسامية ارتفعت في فرنسا بنسبة 74% العام 2018. بالطبع تُتهم الجاليات العربية والإسلامية عموماً، بهذه الأعمال، رغم أن جاك أتالي، الكاتب المشهور والمدير السابق لمكتب الرئيس فرانسوا ميتران والمعروف بصداقته ل»إسرائيل» نفى بشدة مثل هذه الاتهامات.
وللتذكير، فإنها ليست المرة الأولى التي يخلط فيها ماكرون ما بين العداء للسامية، ومناهضة الصهيونية. فقد سبق وفعل في يوليو/ تموز 2017 عندما قال أمام نتنياهو على هامش مشاركتهما في إحياء ذكرى تسفير اليهود الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية: «لن نتنازل عن شيء إزاء معاداة الصهيونية، لأنها تمثل نوعاً جديداً من العداء للسامية».
وعلى الرغم من حرص ماكرون على القول إن موقفه هذا لا يعني منع إدانة السياسات «الإسرائيلية» أو غيرها، لكنه، عن قصد أو غيره، سيفتح المجال أمام المزيد من التضييق على حرية التعبير في موضوع معين بالذات هو موضوع الاحتلال «الإسرائيلي»، وممارساته بحق الفلسطينيين. وكان الكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس في كتابه «من يجرؤ على انتقاد إسرائيل» شرح ما يتعرض له منتقدو الدولة العبرية في فرنسا من اتهامات بالعنصرية، والانحياز، ومعاداة السامية. ولائحة الأمثلة على ذلك تطول، ومن أبرزها اتهام الفيلسوف الراحل روجيه جارودي بالجنون والعداء للسامية لأنه نشر عدداً من الدراسات والكتب التي تدين السياسات «الإسرائيلية». ومن الآن وصاعداً، فقد يصبح انتقاد الاستيطان «الإسرائيلي» في الأراضي الفلسطينية المحتلة موسوماً بمعاداة السامية لكونه يتعرض للأساس الذي قامت عليه الصهيونية، أي الاستيطان.
موقف ماكرون متحيز لأنه في كل مرة كان يعلنه إثر الاتصال بنتنياهو وفي مناسبة يهودية. وعلى الأرجح أن الرئيس الفرنسي يبحث عن دعم داخلي وخارجي على خلفية تنامي حراك «السترات الصفراء» والمطالب الشعبية، وفي وقت تعاني العلاقات الفرنسية-»الإسرائيلية» الفتور. وتملك المؤسسات اليهودية القدرة على توفير مثل هذا الدعم، وقد سارع المؤتمر اليهودي العالمي (اتحاد دولي للمنظمات اليهودية ) ومقره نيويورك، الى الإشادة بتصريحات ماكرون، مطالباً إياه بالمسارعة الى إصدار التشريعات التي وعد بها في هذا الإطار.
موقف ماكرون متحيز للصهيونية، وأيضاً جاهل أو متجاهل لما تعنيه، فهي كما يعرف القاصي والداني، وكما يعرفها قاموس لاروس الفرنسي، حركة قومية وسياسية وأيديولوجية تهدف الى إنشاء دولة في فلسطين عبر دفع اليهود الى الهجرة للعيش في هذه «الأرض الموعودة»، وبحسب لاروس تحقق هدف هذه الحركة عند إعلان قيام دولة «إسرائيل» في 14 مايو/ أيار 1948.
واليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) حرمت العودة الجماعية الى فلسطين، واعتبرتها تجديفاً واعتراضاً على مشيئة الله الذي يعود إليه وحده، وليس للبشر، تحديد موعد وكيفية هذه العودة. كذلك تنكر هذه الحاخامية وجود شعب يهودي بالمعنى العرقي، أو البيولوجي، أو العلماني للكلمة، وبالتالي فهي تعادي الصهيونية، بل وتدعو الى تدمير «إسرائيل» الدولة العلمانية التي أسسها علمانيون ملحدون لأغراض دنيوية. فهل ينبغي اعتبار رجال الدين اليهود من هؤلاء معادين للسامية؟ وهل الذين ناهضوا الصهيونية، ووقفوا ضد السياسات «الإسرائيلية» من كتاب ومفكرين وسياسيين يهود، معادون للسامية؟ وعدد هؤلاء يستعصي على التعداد وتضيق بهم ذاكرة المتابعين والمراقبين: من مستشار النمسا الأسبق برونو كرايسكي، أو ايلان هاليفي، أو الأستاذ في جامعة «تل أبيب» شلومو صاند الذي أثبت بأكثر الطرق علمية وموضوعية «كيف تم اختراع» الشعب اليهودي، و»أرض «إسرائيل»»، أو مكسيم رودنسون الذي ملأ المكتبات الفرنسية بالكتب المفندة لأسس الصهيونية الإحلالية، أو إيمانويل فالرشتاين الذي رفض «تجارة الهولوكوست»، أو نعوم تشومسكي ..الخ
في العام 1880 ابتكر فلهلم مار مصطلح «العداء للسامية»، وكان يعني اليهود الأوروبيين، وليس «العرق» اليهودي. وكان أوجست لودفيج شلوزر ابتدع مصطلح «السامية» في العام 1781 انطلاقاً من سام، أحد أبناء نوح، في معرض كلامه عن اللغات السامية أي العبرية، والعربية، والآرامية.
لقد قامت «إسرائيل» في الأصل على ذريعة معاداة السامية، واحتاجت إلى هذا العداء، ولا تزال الى اليوم، لتستجلب دعم السياسيين والرأي العام الغربيين بهذه الذريعة. وهناك في الغرب من يعادي السامية بالفعل لكنه يؤيد التوسع «الإسرائيلي»، تحديداً من أجل أن يتخلص من اليهود عبر دفعهم للهجرة الى فلسطين المحتلة.