الحالة الفلسطينية.. فقدان الاتجاه والبوصلة

10-03-2019
علي جرادات

غداة اجتياح لبنان عام 1982، وضرْبِ الركيزة الأساسية للثورة الفلسطينية، وتشتيت قواتها، تمادى الاحتلال في الأرض المحتلة، وتغطرست قياداته في السياسة والميدان، حدَّ الظن أن الفرصة باتت سانحة لإسدال الستار على القضية الوطنية وتصفيتها بالمعنى الوجودي للكلمة. لكن استباحات الاحتلال الشاملة، آنذاك، وضعت الحالة الشعبية والوطنية داخل الوطن في وضعية مرجل يغلي، ولا تحتاج لأكثر من شرارة حتى تنفجر كبركان. وهو ما تجسد، (بعد ست سنوات من الإرهاصات)، في اندلاع انتفاضة الحجارة المعجزة. لكن بدايات تلك الانتفاضة لم تكن لتستمر وتتصاعد وتدوم سنوات وتصبح نمط حياة لولا توافر شرط «القيادة الوطنية الموحدة»، كشرط حال دون تعدد الأجندات السياسة، والبعثرة في الميدان، والتشتت في الجهود والطاقات والإمكانات، ومنع، بالتالي، فقدان البوصلة وإضاعة الحلقة المركزية، وغياب الهدف الناظم لكل المطالب الفرعية، المتمثل في: طرد الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال.
المقصود من الإشارة السريعة أعلاه القول: المواجهة الشعبية والوطنية مع الاحتلال لم تنقطع، ولن تنقطع، لكنها تبقى مبعثرة، مشتتة، غير منظمة، طالما ظلت بلا مركز قيادي واحد، وهدف سياسي موحَّد وموحِّد. وهذا هو الحال القائم، فهناك يواجه المقدسيون أعمال التطهير العرقي والاعتداء على المقدسات، ومعركة «باب الرحمة» المفتوحة، وهناك يواجه قطاع غزة الحصار والإفقار والتجويع والقتل والتدمير ومحاولة تكريس فصله عن الضفة، وهناك يواجه الأسرى هجوماً غير مسبوق يستهدف سحب ما حققوه، بالدم والجوع، من إنجازات ومكتسبات على مدار عقود، ومحاولة إعادتهم إلى معادلة القتال الصفري، والمواجهة الشاملة، تماماً كما كان عليه الحال في نهاية ستينات، وبداية سبعينات القرن الماضي، وهناك محاولة الضغط على قيادة «السلطة الفلسطينية» لإجبارها على عدم صرف مستحقات الشهداء والأسرى عبر خصمها من أموال المقاصة، وهناك يواجه الفلاحون الزحف الاستيطاني المتصاعد وغير المسبوق، وهناك تواجه الضفة استباحات عصابات المستوطنين المنفلتة من عقالها، علاوة على الاستباحات والاقتحامات وأعمال القتل والاعتقال وهدم البيوت التي ينفذها جيش الاحتلال، وأفراد وحداته الخاصة في كل يوم، وفي كل مدينة وقرية ومخيم، وهناك يواجه فلسطينيو 48 ترجمات قوانين التطهير العرقي، وسنّ المزيد منها، في إطار تنفيذ ما يُسمى «قانون القومية» ل»»إسرائيل» اليهودية».
وإذا شئنا الاختصار فلنقل: تواجه الحالة الشعبية والوطنية الفلسطينية، في الميدان، هجوماً شاملاً، متصاعداً، متعدد الأوجه، يشنه الاحتلال بدعم أمريكي شامل ومفتوح، لتحقيق هدف سياسي معلن واضح وصريح، عنوانه «صفقة القرن» لتصفية القضية والحقوق والأهداف والرواية الوطنية الفلسطينية من جميع جوانبها، وبالمعنى الوجودي للكلمة. لكن المواجهة، هنا، مبعثرة في الميدان، وتتناهشها في السياسة أجندات فئوية، هي وليدة 11 عاماً ويزيد من الانقسام، لم تنفع لإنهائه وطي صفحته السوداء، تفاهمات وتفاهمات، اتفاقات واتفاقات، وساطات ووساطات، آخرها الوساطة الروسية غير المفصولة عن الجهود المصرية، أما النتيجة ففشل ذريع، بينما كان يمكن التقدم، هنا، خطوة إلى الأمام لو تم الالتزام بالبيان الذي تم التوافق عليه بين جميع الفصائل، لكن التسريبات المخالفة للنص المتفق عليه، أعادت الأمور، في اللحظة الأخيرة، إلى المربع الأول، بل وأطلقت، من جديد، موجة من التخوين، التراشق الإعلامي، ووصلات الردح، والاتهامات المتبادلة بين قيادتيْ «فتح» و»حماس»، ففي حين تتهم قيادة الأولى قيادة الثانية بالعمل على تمرير «صفقة القرن» ترد الثانية للأولى التهمة ذاتها، فيما نعلم، ويعلم الجميع، أنه لا «فتح»، ولا «حماس» توافق على هذه الصفقة، وأن أياً منهما لا تستطيع تمريرها حتى لو أرادت. ثم مَن قال إن التوافق على برنامج سياسي وطني، قوامه القواسم المشتركة، يُجبر أياً من الفصائل على التخلي عن برنامجها الخاص، ثم ألم يتم الاتفاق، في العام 2006، أي قبل حدوث الانقسام، على «وثيقة التوافق الوطني»، وأساسها «وثيقة الأسرى»؟
هنا ثمة ذرائع للتغطية على عدم وجود إرادة جدية لإنهاء الانقسام، أما النتيجة فإضاعة للاتجاه والبوصلة والحلقة المركزية، واستمرار بعثرة وتشتت جهود وطاقات وإمكانات المواجهة الشعبية والوطنية الدائرة مع الاحتلال، في الميدان والسياسة، وفي محطة مصيرية ومفصلية.

ali-jaradat@hotmail.com