الجزائر والجزائريون.. محاولة للفهم

10-03-2019
عبد الله السناوي

«الحمد لله الذي أعطانا هذه الفرصة لنرى الأماني وقد تحققت.. الحمد لله فقد كنا نحلم بالجزائر العربية وقد رأينا اليوم الجزائر العربية».
بتلك الكلمات ابتدأ جمال عبد الناصر خطاباً مقتضباً ألقاه في العاصمة الجزائرية يوم 4 مايو 1963.
لم يَمن على الثورة الجزائرية بحرف واحد، أو بإشارة عابرة. لا قال إننا أمددنا الجزائر بالسلاح، ولا ناصرناها بالمال، ولا أن فرنسا شاركت في حرب السويس عام 1956 للانتقام من دورنا في نصرة ثورتها. قال نصاً: «جمال عبد الناصر لم يفعل أي شيء لشعب الجزائر».
لم يكن ذلك صحيحاً على أي وجه، لكنه خاطب الكبرياء الجزائري الذي ينفر من المن عليه. كانت الجزائر تعرف الحقيقة وتقدرها، ولم تكن في حاجة إلى من يذكرها.
في ذلك اليوم الاستثنائي، زحف مليون جزائري من أنحاء البلاد إلى العاصمة لرؤيته، افترشوا الطرقات العامة وناموا فوقها بالقرب من الميناء، ملايين أخرى سدت الطرق وكادت تحطم السيارة التي كان يستقلها مع الرئيس أحمد بن بيلا، فاضطرا لأن يصعدا إلى أعلى عربة مطافئ مضت بين الجموع الحاشدة.
لم يكن خطاب الجزائر عشوائياً في بنيته وصياغاته، فقد استند إلى دراسات موسعة عن الشخصية الجزائرية واكبت إطلاق ثورتها.
كان التفكير الاستراتيجي المصري في خمسينات القرن الماضي، يعمل على «فتح الجبهة الجزائرية في موقع القلب من الشمال الإفريقي لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسي الذي سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الإفريقي كله يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين تونس ومراكش».
من هنا بدأت «صوت العرب» أعظم معاركها.
من أين نبدأ؟ بم نبدأ؟ ثم كيف نبدأ؟
الأسئلة طرحت نفسها والإجابات اكتسبت جديتها، استناداً إلى دراسات معمقة في التاريخ الجزائري والشخصية الجزائرية، شؤونها وأحوالها «حتى أوشكنا أن نصبح جزائريي الهوية» كما كتب مؤسس «صوت العرب» «أحمد سعيد» في مذكرات خطية لم يتسن لها أن تنشر حتى الآن.
كل ما هو منسوب للشخصية الجزائرية، خضع لنقاش مستفيض شارك فيه أكاديميون مصريون وسياسيون جزائريون حول سماتها الرئيسية:
مثل الانكفاء على الذات توجساً من الغير.
مثل جرعة الانفعال تقبلاً وسماحة، أو رفضاً وعنفاً.
مثل أهو جفاف ومكابرة أم إباء وكبرياء؟
مثل أهو اندفاع بالسلب أو الإيجاب أم هو تردد إلى درجة التوجس والتجمد؟
دراسات «صوت العرب» أثبتت:
أنه أولًا مسلم متجذر في أعماقه. وإنه ثانياً عاشق لمصر ولأزهرها وزعمائها وكتابها وفنانيها مثل: يوسف وهبي وعماد حمدي وفاتن حمامة وزينات صدقي وإسماعيل يس. وإنه ثالثاً العروبة عنده لا تنفصل عن الإسلام، فهي لغته أياً كانت جذوره العرقية. وإنه رابعاً ينظر إلى فرنسا كرمز كبير للثقافة والحضارة وإبداع الفنون وسوق العمل والرزق مهما تدنى العمل وتضاءل الرزق، لكنه يرفض احتلالها ويلعنه وأحياناً يقاومه.
كذلك استخدم على نطاق واسع التراث الجزائري في تمهيد الجو العام للثورة، وتليت أشعار وألفت أغانٍ ومسلسلات إذاعية وبثت نداءات من شيوخ طرق صوفية ترددت في آلاف المساجد وعشرات الآلاف من الزوايا.
تميزت برامج التعبئة بالقصر والوضوح، كأنها طلقة تعرف هدفها وكيف تصل إليه. لم تزد أية مقتطفات صوتية عن أكثر من نصف دقيقة وتناثرت بين الفقرات بعنوان: «كلمة حق». أذيعت بكثافة أقوال وأشعار الأب الأكبر للنضال الجزائري في القرن العشرين عبدالحميد بن باديس. كقوله: «إن هذا الشعب الجزائري المسلم ليس فرنسياً، ولا يمكن أن يكون فرنسياً، ولا يريد أن يكون فرنسياً، ومن المستحيل أن يكون فرنسياً ولو أراد التجنس». وكشعره: «شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله.. أو قال مات فقد كذب».
وكان الهدف من الدراسات الموسعة الإجابة عن سؤال واحد: كيف تتوحد الجزائر بكل مكوناتها من أجل الاستقلال؟ كانت نصيحة بوضياف، التركيز على ما يجمع. كان دور حسين آية أحمد، أحد قادة الثورة الأمازيغية الأصل، رئيسياً في إضفاء إجماع وطني على حركة التحرير المسلحة. وكان دور، ديدوش مراد، أحد أبطالها وهو بدوره أمازيغي الأصل، حاسماً في إحباط فتنة أريد بها ضرب وحدة الجزائر، وهو صاحب شعار: «البربر عرب».
أثناء فتنة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر 2009، سألت الأستاذ أحمد سعيد، مؤسس «صوت العرب» أن يكتب، فدوره مقدر وصوته مسموع في الجزائر، قال: «أريد أن أعرف موقفك».
«أنا قومي عربي».
بالرغم ممّا يربطنا من اتصال وحوار ومودة حتى نهاية حياته، فإن الأجواء العامة دعته إلى ذلك السؤال. كان كل شيء هستيرياً، وأغلب ما يُكتب على ورق أو يبث في فضاء عار حقيقي.