الجامعات والشباب والخروج من التنوّع الديني

09-03-2019
د .نسيم الخوري

جاءني طالب من الأردن مقترحاً عنواناً تقليدياً لبحث يتوخّى عبره نيل شهادة الدكتوراه في الإعلام من المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية. اقترحت عليه ميداناً كان يغريني في متابعته، وما زلت، وأقصد به مصطلح «التنوّع». والتنوّع كنت أفهمه لا بمعناه الأفقي المستخدم الحافل بالتشظيات الكثيرة في الخطاب السياسي في الإعلام اللبناني والعربي حيث طغيان الانشدادات والانقسامات المذهبية والاجتماعية، وحتّى الدينية بين مكونات المجتمع العربي والعالمي، ولا بالغوص في أبعاد تلك التشظيات وتداعياتها التي لم تتخلّص البشرية بعد من أمراضها، خصوصاً في كوارث «الربيع العربي» وانفلاشه الدموي في بلادنا وبلدان أوروبا والعالم، بل بمعانيه الإنسانية القديمة/‏الجديدة التي دمغت نصوص المؤسسات الدولية ووثائقها الطامحة إلى تحقيق العدالة التي ما زالت مستحيلة في الأرض بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، بكلّ أثقالها.
كنت أقصد أيضاً التنوّع الذي يسحب الإنسان بسرعة البرق من بصمة عينيه، وفئة دمه، وبصمات أصابعه، وجيناته، ومستقبله الصحي والعديد من الكشوفات المتلاحقة التي تصبّ كلّها في حقل التنوّع الجزئي الكروموزومي، بما يأخذ البحث أو العقل العربي نحو فهم جديد لمعاني قيادة الشعوب والجماعات والأوطان واستراتيجياتها الغامضة والمتحوّلة في العالم.
طبعاً كانت تأخذني هذه التحولات نحو تلمّس الدمج الحاصل في صيغ تلاقح العلوم الإنسانية والمحضة في زمنٍ نزلت فيه الفلسفة من عروشها الإغريقية والأوروبية والعربية الإسلامية، ولم تتمكّن من مقاربة توحيد البشر في إنسانيتهم، أو تجيب عن أسئلتهم المعقّدة الكثيرة، وكان لا بدّ من اللحاق بالأديان المجموعة، والمتمثّلة أمامي في كتاب ضخم بعنوان: Dictionnaire des Religions
أي «قاموس الديانات» الذي يعود إلى حضارة الهندوس في الهند، أي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، مصنّفاً العقائد والأفكار بالأحرف الأبجدية من الألف إلى الياء، راسماً خوف الإنسان الأبدي والأزلي قبل وصوله إلى الاستلقاء في عالم التوحيد الذي كان يفترض أن يريح البشر من تعبهم، وخوفهم، وقلقهم، إذ حسمته الإجابات عن الأسئلة الفلسفية الصعبة وأخرجته من تقديس الأساطير والأعاجيب والغرابات إلى فهم مقام الإيمان في صيانة مستقبل الإنسان العاقل.
وكان يقلقني باحثاً جدّياً مع طلاّبي العرب وما زال، من أنّ الأديان لم توحد البشر في مساحاتنا أيضاً، لا على العدالة وخير الرسالات. وكان لا بدّ لنا من تلقّف العلوم والكشوفات العلمية التي خطت مسافات في التقنيات والاختراعات التي حافظت وبنت وشفت الإنسان والطبيعة الحضارات من ناحية، لكنّها شوّهتها ودمّرتها من نواحٍ كثيرة أخرى.
وشاءت ظروف الطالب الحسنة في الاختيار المقترح بحثاً عن التنوّع في الأردن ، انهماكي آنذاك في قراءة كتاب ضخم بعنوان:» التنوّع الحيوي، العلم والتنمية»، الصادر عن منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة والاتحاد الدولي للعلوم البيولوجية، وهو من تأليف فرانسيسكو دي كاستري، وطلال يونس، وقد ترجمه إلى العربية العالم الوزير الصديق الدكتور مهدي الحافظ. كنت أعاين وأتعلّم عبر هذا الكتاب الضخم فكرة التنوع من الأسس، أو الجذور البيولوجية الأولى للاستدامة والتغيير.
ناقش الطالب متهيّباً من فكرة التنوع التي بانت مذهبية مع تبيان مساحة وسائل الإعلام ودورها في توليد، أو إشاعة، أو طمس فكرة الغنى في التنوّع لكنّه وقع في البعد الأفقي الرائج للتنوّع في الشرق الأوسط العربي، أعني التنوّع بمعناه المذهبي والديني الذي سيكون الجحيم المفتوح على تدمير مستقبل الأجيال التي تتوالد وتشغل هذه المساحة الغنيّة من العالم أرضاً وسماءً.
الفروق الفكرية والطموحات البحثية تبقى بيننا أكثر اتّساعاً لا لعدم النوايا لدى الطلاب والشباب العرب، ولا لقلّة الاعتبار للأبحاث والباحثين العرب، بل لأنّ إنساننا ضعيف لا يصلب إلاّ متمسّكاً بثوابت السماء والنصوص من دون الاطّلاع أو الاقتداء بالحكمة والقوّة الكامنة في تنوّعات البيئة والطبيعة والكائنات الأخرى.