الثقافة في الكتب

08-03-2019

باسمة يونس


بعد أن استولى المتسولون في العاصمة النمساوية فيينا على كتب المكتبات المهجورة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، اكتشفوا بأنه من أجل بيعها كان عليهم قراءتها؛ لمعرفة ما تنطوي عليه تلك الأغلفة المغلقة، وما تحويه من مواضيع وأفكار من أجل الترويج لها وتشجيع المشترين على شرائها.

ولم ينتهِ الأمر بحصول أي من المتسولين على ثروة مادية لقاء بيع الكتب المسروقة بأبخس الأسعار، لكنهم وعلى غير المتوقع، حصلوا على ثروة معرفية لا تقدر بثمن، فقد أصبحوا يمتلكون القدرة على الكلام باستخدام ألفاظ مثقفة، والتعبير عن آرائهم بالكلمات والأوصاف التي استقوها من أفكار تلك الكتب.

وأدهش ذلك التغيير اللافت مجموعة من المثقفين في فيينا، والذين وجدوا أنفسهم يدخلون في مناقشات مطولة مع المتسولين باعة الكتب؛ لتثبت لهم تلك الحوارات جدارة أولئك المتسولين في مواجهة أفكار من تفرغوا للقراءة والعلم، و مدى قدرة هؤلاء المحرومين من حضور المنتديات الثقافية على تفنيد وتلخيص محتويات قضايا الفكر، كما قد يفعل أهم ناقد في هذا المجال.

لقد كانت قراءة الكتب سبباً غير متوقع في إحداث هذا التغيير الجذري في ثقافة الشارع النمساوي المنهك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي تغيير نوعية الحوار بين المتسولين والمشترين من المثقفين، وفي إبراز أهمية القراءة التي عادلت في تلك الفترة أهمية إنشاء أكاديميات ومدارس ومعاهد لتثقيف الناس وتنشيط قدراتهم الفكرية. ولا تزال المكتبات المتداخلة بين المقاهي والمطاعم في شوارع فيينا شاهدة على أهمية القراءة في حياتهم، وبرهاناً على أن محتويات الكتب كانت ولا تزال تشكل جزءاً لا يتجزأ من أسباب تطور المكان وانتعاشه، بعد خروجه مريضاً من وعث الحرب المدمرة.

ورغم ما يعتبره البعض اليوم بدائل عن القراءة بهدف تثقيف الناس، مثل ما يبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والحوارات المفرغة من المحتوى الفكري، لكنها جميعها لا تعوض الفكر عن الخسائر التي يتكبدها على مر الأيام. ولا تزال القراءة سيدة الثقافة والتعليم مع اختلاف نوعية الوعاء المستخدم للقراءة، و التطورات التي أدخلت على هذا الوعاء، بحيث لا تقلل من قيمة المحتوى وأهميته، لكنها تسعى إلى تطوير تجربة القراءة، من خلال تطوير نوعية الوعاء الذي يحمل المحتوى بين دفتيه.

إن الانتقالات الجديدة التي غيرت شكل القراءة من كتاب ورقي إلى القراءة من كتاب إلكتروني، وانتهاءً بالقراءة التفاعلية التي تدمج بين الكلمة والصورة والصوت، بهدف تحويل المحتوى من مجرد وصف خيالي إلى واقع معاش يعيش فيه القارئ، ويختبر كل المشاعر التي كان يستدرجها بمخيلته، لن تغير شيئاً من أهمية المحتوى، ولن يتمكن الشكل من القضاء على المضمون، فليس كل ما يكتب يقرأ، وليس كل ما يقرأ يصلح لرفع مستوى الفكر، وتثقيف الناس في المجتمعات.

basema.younes@gmail.com