تداعيات عدول ظريف عن استقالته

08-03-2019
د. محمد السعيد إدريس

كشفت استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من منصبه، ثم عدوله عنها، بعد رفضها من جانب رئيس الجمهورية حسن روحاني، عن مدى عمق الأزمة المستحكمة في مؤسسات صنع قرار السياسة الخارجية الإيرانية من ناحية، بقدر ما كشفت أيضاً عن عمق الشرخ الآخذ في التعمق بين التيارين السياسيين الكبيرين المتصارعين على السلطة في إيران: تيار الأصوليين بجناحيه الثوري والمحافظ، وتيار الإصلاحيين، وهو الشرخ الذي أخذ يقود المجتمع في إيران إلى حالة غير مسبوقة من الاستقطاب الحاد بدأت تفرض نفسها على قرار السياسة الخارجية.
لقد ظل قرار السياسة الخارجية، لفترة طويلة، بمنأى عن هذا الاستقطاب الذي كان منحصراً في حدود ما يتعلق بشؤون السياسة الداخلية الإيرانية والصراع على السلطة، وهو الصراع الذي كان من أبرز معالمه ذلك الصراع الأهم بين ما يسمى ب»المؤسسات المنتخبة»، أي التي ينتخبها الشعب مباشرة، وبين ما يسمى ب»المؤسسات المعينة»، أي التي يختارها ويعينها المرشد الأعلى، والتي عادة ما تكون لها الغلبة، أو السيطرة.
وعلى الرغم من أن استقالة ظريف اكتسبت أبرز دلالاتها من تزامنها مع ما يمكن وصفه ب»الزيارة الاستثنائية» التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران يوم الاثنين (25/2/2019)، حيث أعلن ظريف عن استقالته بشكل غير معهود عبر موقع «انستجرام»، كأنه تعمد ذلك في إشارة إلى أنه يريد استنهاض رأي عام داعم له ولموقفه، مساء ذلك اليوم الذي زار فيه الرئيس السوري العاصمة الإيرانية، حيث لم يشهد ظريف وقائع اللقاءين المهمين للرئيس الأسد بكل من المرشد الأعلى خامنئي والرئيس روحاني، لكن المعاني والدلالات الأهم لهذه الاستقالة هي ما تعكسه من أزمة مكتومة في أروقة مؤسسات صنع قرار السياسة الخارجية، وفي القلب منها وزارة الخارجية، حيث أخذت المؤسسات الأخرى تفرض نفسها بقوة داخل عملية صنع ذلك القرار ما أخذ يؤدى إلى تهميش دور الخارجية كمشارك في صنع القرار، وتقليصه في حدود «تنفيذ القرار» فقط، وهو تنفيذ يخضع في الوقت نفسه إلى مراقبة ومحاسبة الكثير من الأجهزة، سواء كانت البرلمان، أو مجلس الأمن القومي، أو مؤسسة الزعامة، أي مكتب المرشد، وعلى رأسه على أكبر ولايتي مستشار المرشد للسياسة الخارجية وزير الخارجية الأسبق.
فقرار السياسة الخارجية يصنعه مجلس الأمن القومي ومجلس السياسة الخارجية ووزارة الخارجية، وأجهزة الاستخبارات، ويصدره المرشد الأعلى وينفذه رئيس الجمهورية من خلال الوزارة المختصة بذلك، أي وزارة الخارجية، ويبدو أن ظريف اتخذ قرار الاستقالة من خلفيتين، الأولى التي أصابته عقب عودته من جولة خارجية اعتبرها ناجحة زار خلالها العراق ولبنان، لكن الأهم كانت مشاركته المميزة في «مؤتمر ميونيخ للأمن» بألمانيا التي واجه فيها كل من مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، ومايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي، وبنيامين نتنياهو رئيس الحكومة «الإسرائيلية»، بسبب مواقفهم وتصريحاتهم المعادية لإيران في مؤتمر وارسو الذي سبق مؤتمر ميونيخ بيومين فقط. وعاد ظريف إلى طهران وهو يتوقع أنه سيكافأ على دفاعه، بل وقتاله من أجل إيران في الساحة الدولية، وإذ به يهمَّش ويبعد عن حضور اجتماعات الرئيس السوري مع كلٍ من خامنئي وروحاني، وهناك من يؤكد أنه، أي ظريف، لم يعلم نهائياً عن زيارة الرئيس الأسد إلا بعد الإعلان عنها، أي بعد عودة الأخير إلى دمشق، وأن المسؤول الأول عن هذه العملية كلها هو الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري.
الخلفية الثانية هي إدراك ظريف لخطورة التهميش الذي أخذ يفرض نفسه على دور وزارة الخارجية في إدارة السياسة الخارجية الإيرانية، وبالتحديد دورها في عملية صنع القرار لمصلحة المؤسسات الأخرى، وبالذات الحرس الثوري، وأن هذا التهميش في تصاعد مستمر بسبب تداخل ما هو أمني مع ما هو سياسي في سياسة إيران الخارجية، وغلبة الأمني على السياسي، بعد أن أضحت أغلب تفاعلات إيران الخارجية صراعية أكثر منها تعاونية، ما جعل الحرس الثوري والمؤسسات الاستخباراتية طرفاً مسيطراً على صنع قرار السياسة الخارجية، وهو ما يرفضه ظريف الذي يعتقد أنه حقق للسياسة الخارجية نجاحات لم يحققها أي وزير سابق، وأنه يستحق أن يكون المسيطر على سياسة إيران الخارجية، وليس الحرس الثوري.
تهميش ظريف في زيارة الرئيس الأسد كانت آخر ما يمكن أن يتحمله، لذلك فإن عدوله عن الاستقالة بعد تدخل مباشر من الرئيس روحاني، من المرجح أن يثير هو الآخر تداعيات لا تقل عن تداعيات الاستقالة، تتعلق باختصاصات وزارة الخارجية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، ولعل في الثناء الذي ورد على لسان سليماني بحق ظريف، وإعلان سليماني أن ظريف «هو المسؤول الرئيسي عن السياسة الخارجية الإيرانية»، والاتصال الذي أجراه معه وليد المعلم وزير الخارجية السوري، وتوجيه دعوة له من الرئيس الأسد لزيارة سوريا، مؤشرات تقول إن عودة ظريف ربما تؤدي إلى تحقيق توازن غاب طويلاً بين مؤسسات صنع قرار السياسة الخارجية، لكن هذا التوازن سيبقى مهدداً طالما أن الأمن وهواجسه يطغيان بقوة على سياسة إيران الخارجية.

mohamed.alsaid.idries@gmail.com