مؤسسات يتجاوزها التاريخ

07-03-2019
جميل مطر

الفرصة متاحة نظرياً، ليجرب الاتحاد الأوروبي حظه، فيحتل في المستقبل مكانة إحدى الإمبراطوريات الأوروبية العتيدة. هكذا راح تفكير أحد السياسيين الأوروبيين، وفي نيته تحذير القائمين على قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وباريس وبرلين، من مغبة الطموح المتزايد إلى تحقيق الوحدة الأوروبية، واقتراح سياسات أمنية ودفاعية واقتصادية تقرب هذا الهدف.
هؤلاء القادة في أغلب الحالات معذورون. إذ فجأة وجدت أوروبا نفسها بأبواب ونوافذ مشرعة لا تقوى حتى على غلقها في وجه أنواع شتى من رياح عاتية، ولا أقول، كما يقولون هم أنفسهم، وجدت نفسها بحدود برية وبحرية وأجواء لا تملك درجة مناسبة من القوة اللازمة لحمايتها من التهديدات الخارجية. عاشت عقوداً مطمئنة إلى أن نظاماً دولياً ثنائي القطب يتولى هذه المهمة، وحربا باردة حققت لها استقراراً سياسياً وسلاماً وأمناً لم تتمتع بأي منه لسنوات، وربما لقرون عدة. معذورون أيضاً لأن دولاً أوروبية غير قليلة العدد خرجت من عهود الشيوعية والضغوط السوفييتية تتوسل الانضمام إلى المشروع الأوروبي بأمل أن يفعل بها ما فعل مشروع مارشال الأمريكي بدول أوروبا الحليفة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لم يخطئ كارل شوارزنبرج، السياسي التشيكي حين حذر قادة الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت من خطر الانجرار وراء حلم أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى هيكل إمبراطوري، مثل إمبراطوريات القرن التاسع عشر. فهمت قصده وإن متأخراً. أراد أن يذكّر المسؤولين عن قيادة أوروبا الجديدة بالنهاية الأليمة لإمبراطورية النمسا نتيجة امتناع قادتها عن تحديثها وتطويرها على أسس عصرية، فتحجرت، وانفرطت.
شاخ الاتحاد الأوروبي، شاخ حتى قبل أن يشب عن الطوق، شاخ وشاخت معه مؤسساته، وأفكاره الوحدوية. شاخت أيضاً أحلامه، وظهرت منافسة لها أفكار شابة، قومية الطابع، قومية بمعناها الضيق أي المعنية بوطن محدد المعالم، والحدود، وله تاريخه المميز. شاخت في الاتحاد الأوروبي هياكل ومؤسسات وأفكار تماماً كما شاخت قبل مئة عام هياكل ومؤسسات ومنظومة القيم في الإمبراطورية النمساوية، شاخت ولم تجد من يطورها، ويحدثها، فتفككت، واشتعلت بسبب انفراطها بحرب عالمية.
في ظني أن نساء ورجال الدولة في المملكة المتحدة كانوا واعين في عام 1975 لأهمية أن يشاركوا في حلم أوروبا الموحدة، فربما تحقق فعلاً، ومن دونها. نجاح المشروع الأوروبي كان يعني توازناً للقوى مختلفاً كل الاختلاف عن التوازن الذي انكبت الاستراتيجية البريطانية على صياغته، وتنفيذه على امتداد القرن التاسع عشر، ومن خلال توظيف مكانة وقوة الولايات المتحدة قائد الحلف الغربي في الحرب العالمية الثانية، ومن بعدها. عاشت بريطانيا تراقب من موقعها الجغرافي خارج القارة توازن القوى الأوروبي، وتمنع اختلاله لمصلحة دولة أوروبية دون أخرى. وعندما قامت السوق المشتركة، وسعى القائمون عليها إلى اندماج أقوى، وتكامل أسرع، حاولت بريطانيا وضع العراقيل في طريقها. ثم انضمت حين شعرت، هي والولايات المتحدة، بأنها من الخارج لن تتمكن من التأثير في السياسات والنزاعات الأوروبية.
يحمّلون الرئيس ماكرون جانباً من المسؤولية عن تمرد الدول الأعضاء من شرق أوروبا. نذكر كيف كانت السيدة ميركل هدف المتمردين في اليونان وإسبانيا وإيطاليا، والآن تغيب سيدة أوروبا متدرجة في الأداء والقيادة، بينما يحاول ماكرون، مرتدياً ثياب سيد أوروبا المشارك، سد فراغ كبير في منصة القيادة في الاتحاد الأوروبي. ويبدو أنه في محاولته هذه صار يبالغ. يقول آندريه بابيس رئيس وزراء تشيكيا «ماكرون يتكلم أكثر مما يجب عن أوروبا»، ويقول جون كيجر الأستاذ في جامعة كامبريدج، «نعم ماكرون يثير حفيظة أمم شرق ووسط أوروبا وإيطاليا».
قادة أوروبا مطالبون من شعوبهم اليوم، وليس الغد، بأن يعيدوا النظر في هياكل وسياسات المشروع الأوروبي بهدف تحديثه، وليناسب تناقضات العصر والتغيرات العميقة التي طرأت على مجتمعاتهم. أظن أننا، هنا في مصر وخارجها في شتى أنحاء العالم العربي، لا نتجاوز حدود المسموح، أو منطق الأشياء، إذا طالبنا القادة من السياسيين والمفكرين بأن يعيدوا هم أيضاً النظر في هياكل ومؤسسات وجوهر المشروع العربي. هؤلاء القادة هم الآن ربما كانوا في حاجة إلى التشاور فيما بينهم لاتخاذ قرار بالتوجه، جمعاً، إلى ميدان التحرير في العاصمة المصرية، واقتحام مبنى جامعة الدول العربية. هناك يعتصمون لساعات، ويا حبذا لأيام، ولا يتركونه إلا بعد أن يقرروا بالإجماع، إن أمكن، أو بالأغلبية إن تعذر الإجماع، أن الجامعة لم تعد تناسب العصر. فليعلنوها اعترافاً، أو اكتشافاً صريحاً ضمن صرخة مدوية، أن هذه الجامعة العربية تخلفت لأن العصر تجاوزها. تجاوزها أيضاً ما طرأ على مفهوم الأمة، ومفهوم القومية، ومفهوم الحكم الذي صار حكماً رشيداً، ومفهوم الأمن، وبالذات الأمن القومي، ومفهوم الإنسان بعد أن نبتت له حقوق، ومفهوم فلسطين بعد أن تداول فيه من لا يحق له التداول في ساحات العدل والشرف، ومفهوم الدين بعد أن لحق بسمعته الدنس من نساء ورجال لا يفقهون، ومن باعة سلاح وحروب يتجولون، ومن أصنام سكتت طويلاً، ونطقت كفراً.
فليعتصم القادة في مقر الجامعة العربية الكائن بميدان التحرير في العاصمة المصرية، حتى يقرروا أن جامعتهم لم تعد تناسب العصر، ويقترحوا البديل، وبعدها يرحلون، كل إلى عاصمة بلاده في أمن، وأمان.